الموجة الثورية التي ستغرق فرعون مصر

«أنا كمواطن سعودي، أعيش لاجئًا الآن في تغريبة مفتوحة، بسبب توابع انكسار ثورة يناير في مصر».
تلك العبارة نقلها الصحافي المصري جمال سلطان عن نظيره السعودي الراحل الأستاذ جمال خاشقجي، رحمه الله، في آخر لقاء جمع الاثنين في إسطنبول، يؤكد بها على قوة تأثير مصر في دول المنطقة وشعوبها.
ولأنها رمانة الميزان في الأمة، فقد اتجهت إليها من جديد جميع الأنظار في هذه الآونة، بعد انطلاق شرارة الانتفاضة الشعبية ضد حكم السيسي، الذي حوّل مصر إلى «سجن كبير»، وهو التعبير الذي استخدمته صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، في سياق تعليقها على الأحداث الأخيرة التي فجرها المقاول الفنان محمد علي ضد فساد السيسي وزبانيته.
يقول غوستاف لوبون في كتابه «روح الثورات والثورة الفرنسية»: «في الغالب تتم الثورات الحقيقية، التي يتوقف عليها مصير الأمم بالتدريج، وهذا ما يجعل المؤرخين يَلقوْن مصاعب في تعيين بداءتها»، وهذا تقريبا ما ينطبق على الواقع المصري، كانت ثورة يناير التي لم تكن احتجاجات فئوية، بل ثورة شعبية لها صفة الانطلاق الذاتي العشوائي، اكتسبت مع الوقت شكلًا منظمًا، ثم اعترضتها ثورة مضادة لإجهاضها وتبديد مكتسباتها، ثم تعاود تلك الثورة الظهور على هيئة موجة أخرى بعد خبرة تراكمية للشعب الثائر، وهو ما تعيشه مصر هذه الأيام.
ست سنوات على انقلاب السيسي وتوليه زمام الأمور، ابتدأها بمذبحة رابعة التي كان يمكن فضها بأساليب تُجنب إراقة الدماء، لكنه أراد إخراجها بهذه الصورة البشعة ليقتل كل تطلعات ثورية لاحقة. ست سنوات من القمع وتكميم الأفواه ونهب البلاد، صار فيها السيسي فرعون مصر بكل ما تعنيه تصوراته عن علاقته بالشعب (أنا ربكم الأعلى) ( ما علمت لكم من إله غيري) (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) (لأصلبنكم في جذوع النخل). وقد يأتي هلاك الطاغية على يد من يربيه، وممن لا تفصله عنه مسافات شاسعة، كان هلاك فرعون مصر على يد موسى الذي أرادت الحكمة الإلهية أن يُربى في قصر الفرعون، وكذلك بدأت إرهاصات هلاك فرعون العصر، زعيم الانقلاب عبد الفتاح السيسي، على يد المقاول محمد علي، الذي كان يعمل مع جيش السيسي ويبني له قصوره واستراحاته، ثم فضح فساده، ودعا الشعب المصري إلى النزول للميادين رفضا لحكم الطاغية. الصورة في مصر تتضح رويدا رويدا، فمنذ أسبوعين تحدثت في مقالة لي في «القدس العربي» بعنوان «مذبحة محمد علي»، عن احتمالات قائمة بأن الرجل يسانده جناح معارض داخل النظام، وسياق الأحداث يدعم هذا الاحتمال بقوة على النحو التالي:
هناك جناح معارض متمثل في المخابرات العامة وبعض قيادات الجيش، رافضة لحكم السيسي، الذي سطا على المخابرات العامة وعيّن ذراعه عباس كامل مديرا لها، وأدخل الجيش في متاهة ابتلاع الاقتصاد وحماية الأمن القومي الإسرائيلي، وخلق فجوة عميقة بين الشعب والجيش، ما جعل هذه القيادات ناقمة عليه، ولديها رغبة في إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية، شرط ألا يخرج زمام الأمور من يدها، مقابل جناح آخر يريد بقاء السيسي.
لكن هذا الجناح الذي يرغب في الإطاحة بالسيسي يحتاج إلى ظهير شعبي ليبدو الأمر كثورة شعبية، وليس انقلابا عسكريا تكون له تبعاته على الجيش على الصعيد الدولي، ومن أجل ذلك تبنت تلك القيادات ظهور محمد علي الفنان المقاول، الذي ليس لديه أية انتماءات سياسية، ويعبر ببساطة عن طموحات الشعب، لكي يكون أيقونة الثورة التي تطيح برأس النظام.
ربما يعضد من هذا الطرح المقاطع المتداولة عن التظاهرات في عدة مدن مصرية، والتي لم نر فيها الأمن المصري يتعامل بالوحشية المعهودة، نعم هناك قمع لكن ليس بالصورة التي ألفناها، وكأنه يتعامل بمبدأ إمساك العصا من المنتصف مع المتظاهرين، إضافة إلى الأنباء التي صارت متواترة عن وجود ضباط في الجيش داعمين للحراك الشعبي. ثم ينبغي أن لا يفوتنا السفر المفاجئ للسيسي الجمعة الماضية إلى الولايات المتحدة، للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث أن فعالياتها ستنطق يوم 24 سبتمبر الحالي، فلماذا سافر قبلها بأربعة أيام؟ ما يشير إلى أنه يعلم مسبقا أن الثورة بالفعل ستنطلق في هذا الوقت، بتمرير من قيادات أمنية وعسكرية وأنه الآن في مرحلة تفاوض مع الأمريكان بهذا الشأن.
ولا يستبعد أن الجهة التي سمحت للجماهير – المتأهبين والتواقين للثورة على النظام بالأساس – بذلك الحراك قامت بتصفية الدكتور محمد مرسي، لأنه في حالة الإطاحة بالسيسي ستخرج أصوات كثيرة تنادي بعودة الشرعية المتمثلة في مرسي. هذه الرؤية لم تعد خافية على الثوار، لكن إسقاط السيسي صار مطلبا ملحا لكل القوى السياسية والشعبية، لا يحتمل التأجيل من أجل المزيد من المكاسب الثورية، فيبدو أن الكلمة سوف تجتمع على تحقيق بعض المطالب الجزئية التي ستعد حينها مكسبا كبيرا مقارنة بالأوضاع المأساوية التي أدخل فيها السيسي البلاد، ويحتاج إصلاح ما أفسده إلى زمن طويل. رحيل السيسي، والإفراج عن المعتقلين، وحدوث انفراجة في الحريات والحالة المعيشية، وإجراء حوار وطني شامل، وإعادة ترتيب علاقات مصر مع دول المنطقة، من وجهة نظري ستكون المكاسب المرضية للشعب المصري الثائر، وذلك بمنظور واقعي. أما أن يسقط النظام بأكمله، أو يكون هناك حكم مدني، فهو أمر صعب (ولا أقول مستحيلا)، ويحتاج إلى مواصلة الثوار انتفاضتهم وعدم ترك الميادين والشوارع إلا بعد تحقيق كامل المطالب. الثوار باتوا يدركون أنهم ورقة في يد الأجهزة الأمنية والمؤسسات العسكرية وظهير شعبي للجناح الناقم على النظام، لكن ليست أمامهم خيارات أخرى سوى المضي في إسقاط السيسي والرضا بالمكاسب المتحققة. الشرارة انطلقت، وكرة الثلج تدحرجت، والأبطال غير المؤدلجين الذين كانوا في الطليعة، كسروا حاجز الخوف لدى المصريين، وأغلب الظن أن الأمر لن يطول ويخرج المجلس العسكري بالبيان المعروف، وعلى الثوار أن يغتنموا الفرصة، ويجتمعوا على المساحات المشتركة، ولعلنا في القريب العاجل نستعيد ما قاله الشاعر المصري هشام الجخ في قصيدته «مشهد رأسي من ميدان التحرير»:
خبئ قصائدك القديمة كلها
مزق دفاترك القديمة كلها
واكتب لمصر اليوم شعرا مثلها
لا صمت اليوم بعد اليوم يفرض خوفه
فاكتب سلام النيل مصر وأهلها
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

إعلان استشهاد الضيف ورفاقه.. دلالات المشهد

كل شيء كان يشير إلى انتصار غزة ومقاومتها على العدو الصهيوني، صمود الشعب، واستمرار الفصائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *