كان أحد الحكماء يعتقد وهو صغير أن الرعد هو الذي يقتل الناس، فلما كبُر، علم أن البرق هو الذي يقتل، وأنه الأشد تأثيرا، فقال: “عزمت من ذلك الحين على أن أُقِل مِن الإرعاد وأُكْثِر من الإِبراق”.
ليت شعري أين من يسبحون في فضاء الأحلام بجناحي الهمة، فتصبح أحلام اليوم حقائق الغد.
لئن كان الناس يقولون “قيمة كل امرئ ما يُحسن”، فتلك فلسفة القانعين وأصحاب السقف المنخفض، وأما من يتقلبون على الفرش تؤرقهم همة تناطح الجبال، فأولئك يقولون: “قيمة كل امرئً ما يطلُب”، فهِمَّةُ المرء ومطْلبُه ميزان الرجال.
لما كانت الهمة العالية هي استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، كان البون شاسعا بين أصحاب الهمم، حتى أنك تجد ذلك الفرق في هِمم الحيوانات، فما بين عنكبوت عِصاميّ يأْبَى عطاء الأم فينسج لنفسه بيتا حين ولادته، وحَيّةٍ جائرةٍ تطلب ما حفَر غيرها، وما بين صقر لا يقع إلا على الحي، وغرابً يتْبع الجِيَف، ومِن ثَمَّ رأينا ابن القيم يُدندن حول ذلك المفهوم قائلا: “الهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور، لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علَتْ بعُدتْ عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصَدَتْها الآفات من كل مكان”.
أَمَا إن القرآن يستحثُّ هِمَمَكُم نحو المعالي ولا يرضى لكم دون القمم فقال {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض}، ونبيكم يوقد فيكم الهِمة لنيل أقصى الغايات فقال: (فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس)، والفاروق على الدرب يُرسل حِكْمتَه ” لاتُصُغِّرَنّ همتك, فإني لم أرَ أقْعَدَ بالرجل من سقوط هِمّته”.
ذات يوم شهدت الكعبة اجتماعا لشباب تتقلب جنوبهم على جمْر الهمة، عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، فأفضى كل واحد منهم إلى الآخرين بأمنيته، فأما مصعب فتمنى ولاية العراق والزواج من سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، فتحولت الأمنية بجناحي الهمة إلى حقيقة فنال ما تمنى، وأما عروة فتمنى الفقه وأن يُؤخذ عنه الحديث فنالَهُ، وأما عبد الملك فتمنى الخلافة فنالها، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة فنحسبه من أهلها.
إذا لم يكن للفتى همة … تُبوّئه في العلا مصعدا
ونفس يعوّدها المكرمات … والمرء يلزم ما عُوِّدا
ولم تَعْدُ همته نفسه … فليس ينال بها السؤدُدا
أين الهمة يا أبناء الأمة؟ “أيُنقص الدين ونحن أحياء؟” قالها الصديق أبو بكر فوفَّى وصدَق، فلئن سقطنا في حفرة احتقار الذات ورؤية الفارق بيننا وبين الأولين، فلْنُصْغ إلى أبي مسلم الخولاني وهو يقول حالَ المجاهدة: “أيظن أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – أن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله لنزاحمهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم قد خلَّفوا وراءهم رجالًا”.
رُبّ همة أخذت بصاحبها نحو المعالي، وجعلت منه رجلا بأمة، فهِمّة “القعقاع” جعلت صيحاته أبلغ من ضرب الحسام، ما حدا بالصدّيقِ لأن يقول “صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل”.
وهِمّة قد اتقدت في صدور نفر من الأبطال جعلت الفاروق يكتفي بهم عندما طلبَ منه عمرو بن العاص المَدَد، فأجابه: (أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف: رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن خالد).
وهِمة حَلَّق بها العلامة سعيد بن عفير، فجعلته من عجائب مصر لدى إمام المحدثين يحيى بن معين، والذي لم يخف انبهاره بالرجل فقال: “”رأيت بمصر ثلاث عجائب: النيل، والأهرام، وسعيد بن عفير”.
تجمعت في فؤاده همم … ملءُ فؤاد الزمان إحداها
لما حَمَل حبيبٌ هَمّ أمته، جاء من أقصى المدينة يسعى، يدعو قومه {اتبعوا المرسلين}، فلما باع لله حياته ونال الشهادة، لم تفارقه هِمّته في هدايتهم وهو في العالم الآخر {قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}.
وحَمَل “رشيد رضا” صاحب “المنار” هَمَّ الأمة منذ صباه، فإذا ما رأته أمه مهموما علمت أنه مَحْزونٌ لأجل الأمة فسألته: مالك؟ هل مات مسلم بالصين؟”.
لقد أتانا من ميراث نبينا دُرّة المقال (الدين النصيحة)، وإني مُرسلةٌ إلى أبناء الدين بهدية، فناظرةٌ – على أمل – بِم يرجِع الصَّدى.
إن كنتَ تَرومَ عُلوَّ الهِمة فالْزم مجاهدة النفس، فهي مفتاح أبواب الوصول، وعدٌ من الوهاب {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}، فتكلَّفْ عملَ القانتين الباذلين، وحاكِ المُجتهدين المُبادرين، وسُقْ نفسك بسياط الخوف تارة، وحَرِّك شوقها بالرجاء تارة أخرى، واعلم أنك بقدر ما تتَعنَّى تنال ما تتمنى.
وأتْبِع ذلك بالدعاء، وخاصة في ظُلم الليل، فقلَّمَا تُخطئ سِهامُه، وسَلْ مولاك العزيمة في الرشد كما سألها خير الأنام صلى الله عليه وسلم.
وتشبَّه بالكرام تكن منهم، فالمرء على دين خليله، والصحاب ساحب…..
أنت في الناس تُقاسُ … بالذي اخترتَ خليلا
فاصحب الأخيار تعلو… وتنل ذكرا جميلا
لقد أدرك ابن الجوزي ما تعنيه عدْوَى الهمم، فقال: “أعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نُعاشرهم, لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتَدِي بها المُبتدىء, ولا صاحب وَرَعٍ فيستفيد منه المُتزهِّد”، ثم أقْبَل علينا ذلك الفقيه بزيادة في النُّصح، فأرشد إلى مُطالعة سِيَر الباذلين أصحاب الهمم العالية، فقال: ” فالله الله, عليكم بملاحظة سير القوم, ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم, فالاستكثار من مُطالعة كتبهم رؤية لهم”.
وهذا ابن القيم يقتبس لنا من شأنه مع أستاذه ابن تيمية، ويُجلِّي لنا أثَرَ شيخ الإسلام على من حوله، فيقول: “وكُنّا إذا اشتدّ بنا الخوف، وساءت مِنّا الظُّنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطُمأنينة”.
وما أُوتيَتْ هِمّة المرء إلا من قِبَل جهْلِه، فعوِّد نفسكَ العلم تزهو، واسقِها من كأس المعرفة تنمو، وخذها من طبيب القلوب خالصة: ” لابد للسالك من هِمة تسيِّره وترقيه, وعلمٍ يُبصِّره ويهديه”.
أيها الراغب، انزع عنك غطاء الخُمول، واقْتَدِ بسيد المرسلين حينما خُوطِب {يا أيها المدثر قُم فأنذر}، فعاش بعدها ولسان حاله (مضى عهد النوم)، واعْلم أن الحركة بداية، وأن السكون نهاية، وتلك من فَمِ الجيلاني، يؤكد عليها الشافعي:
إني رأيت وقوفَ الماء يُفسدهُ … إن ساح طاب، وإن لم يجْرِ لمْ يَطبِ
والأُسْدُ لولا فِراق الأرض ما افترستْ … والسهم لولا فِراق القوس لم يصبِ
والشمس لو وقفت في الفُلْك دائمةً … لملَّها الناس مِن عَجَمٍ ومِن عربِ
تلك إشارات تُغني اللبيب عن كثرة العبارات، حسبي فيها امتثالي لمنهج {وذكِّر}، علَّها تُضرم النار في الهمم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
لا تجعل نهاية لأفقك.. بل حدد نهايتك بـ: لانهائية اللانهائية.
اشكرك
جميلة المقالة كعادتك استاذة احسان ، انا عزة من قراءك المداومين على قراءة مقالاتك وانا دائما كنت اتابعك على تويتر لكن لظروف أمنية عطلت حسابي على تويتر ، مقالتك جميلة والعنوان اجمل ، نحو المعالي ، اللهم اجعلنا من أهل العلا
كنت سعيدة عندما وجدت صفحتك على فيس بوك ،لكني وجدتها مغلقة
الله الله ما أروع كلماتك فقد أحسستيني بمدى تفاهتي وتقزمي. مثلك وقسما بالذي خلقنا في أحسن تقويم لترفع فوق الجباه ويبسط لها سجادة الولاء والطاعة في مهارة اللغة العربية والحكمة النيرة. من أروع ما قرأت ومن أنقى ما لمس قلبي وادمع عيني. فو الله أن كلماتك لها وقع في نفوسنا، سحرتينا أثابك الله ورفع من قدرك.
وقسما بالله أنني أعزك وأقدرك واحترمك كثيرا وأنت أختنا في الدين ما بقيتي عليه نبراسا ونورا نهتدي به. فزيدينا أثابك الله من فضل عطاء الله لك جملة وتفصيلا. وأصفحي عنا وتغافلي فأنت مكانتك مكانة عالية لا يصل إليها صفاف الأمور وسواقطها.
دمتي ودام قلمك شامخا وبتارا في الحق ورفع قدرك.
جزاگ الله خيراً،،،،وسدد على طريق الخير خطاگ..
انتي الآن تقومي بما عجز عنه العلماء
ارجوك استمر فنحن نحيا بكتاباتك
من لبس ثوب الإخلاص، وفق بإذن رب الناس
بوركتم أيتها الفاضلة