تعد اليمن من أكثر الدول العربية قابلية لاختراق المشاريع الخارجية، وعلى وجه الخصوص ذات الأبعاد المذهبية والطائفية، نظرا لضعف سلطة الدولة التي تحكم مجتمعا قبليا، ولضعف الموارد الاقتصادية، بالإضافة إلى الانقسامات السياسية والاجتماعية في اليمن.
لقد سهلت هذه العوامل نجاح التوغل الإيراني في اليمن وتصدير مبادئ الثورة الخمينية المحملة على أساس طائفي، تجلى ذلك في سيطرتها على الدولة اليمنية من خلال صعود الحوثيين.
وللحديث جذور وغراس…..
الوجود الإيراني قبل الثورة اليمنية:
لم تكن الإمامية الإثنى عشرية (أو الجعفرية) – التي قامت عليها الجمهورية الإيرانية فيما بعد- لها تأثير يذكر في عهد دولة الإمامة في اليمن، والتي تسير على المنهج الزيدي.
ومن المعلوم أن بين المذهبين تاريخا طويلا من التناحر والعداء بلغ حد التكفير، فهناك خلافات أصولية بينهما، من بينها أن الإمامة عند الجعفرية أصل من الأصول الدين، وهو ما يجعل الخروج عليه كفرا بواحا، فلما خالفهم الزيدية في ذلك الأصل وقالوا بأنه الأئمة الإثنى عشر ليسوا معينين بالنص، وأن الإمام قد يكون من نسل الحسن كما الحسين، كفّرهم الإمامية في ذلك، بالإضافة إلى أوجه أخرى متعددة للخلاف ليس هذا مجال ذكرها.
ثم قامت الثورة عام 1962 على يد فرقاء متنوعين: يساريين، قوميين، علمانيين، وبعض الإسلاميين، كلهم قد اجتمعوا فقط على زوال الإمامة باعتبارها تمثل سلطة كهنوتية، إلى هذا لم تملك هذه الاتجاهات أي عداء للوجود الشيعي الإثنى عشري في اليمن، حيث لم تكن ثورة الخميني قامت بعد.
ثورة الخميني:
ومنذ اندلاع ثورة الخميني عام 1979، اتجهت الجمهورية الإيرانية ذات المشروع القومي الفارسي المرتكز على أساس مذهبي، إلى تصدير الثورة، وهو ما أكد عليه الخميني عندما قال في الذكرى الأولى لثورته: “إننا نعمل على تصدير ثورتنا إلى مختلف أنحاء العالم”.
ورغم وقوف اليمن بجانب العراق في حرب الخليج الأولى (الحرب العراقية الإيرانية)، إلا أن ذلك لم يمنع النشاط التبشيري الإيراني والذي بدأ داخل اليمن في بداية الثمانينيات، ولعل أول ثمراته كانت إنشاء “اتحاد الشباب” عام 1986، على يد صلاح أحمد فليتة، والذي كانت مبادئ الثورة الإيرانية أهم مواد التدريس فيه، وكان محمد بدر الدين الحوثي ضمن القائمين على التدريس في الاتحاد.
وكان العميد عبد الله العليبي عضو المكتب السياسي للتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، من أبرز النخب السياسية التي اعتنقت المذهب الإمامي، وأعلن مبايعته للخميني بعد تسلله إلى السفارة الإيرانية عام 1983.
لقد كان للتوجه الخميني العسكري في تصدير الثورة، أثرٌ سلبيٌ على الشعوب العربية أذهبت كثيرا من شعبية الثورة التي اكتسبتها لدى اندلاعها، ولكن بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية ثم وصول علي هاشمي رفسنجاني إلى سدة الحكم عام 1989، حوَّل الأخير هذا المسار، وعمل على تصدير المشروع عن طريق آليات سياسية وفكرية، وسعى إلى التقارب مع دول الجوار، الأمر الذي سهل تصدير مبادئ الثورة الخمينية وأفكارها في الداخل اليمني.
وقد صدر في عهده كتاب “تصدير الثورة كما يراها الخميني” جاء فيه ما نصه: “مبدأ تصدير الثورة لا يعني الهجوم العسكري وحشد الجيوش ضد البلدان الأخرى مطلقا، لكنه يعني استخدام أساليب تنسجم ومتطلبات المرحلة الجديدة”.
واستغلت إيران هذا الهدوء في العلاقات مع دول الجوار في إقامة المراكز الثقافية والمشروعات الاستثمارية والجمعيات الخيرية داخل اليمن، بالإضافة إلى بذل المنح الدراسية داخل إيران لليمنيين وغير اليمنيين، وهو ما روج لأفكار الثورة الخمينية ومذهبها الجعفري بصورة قوية.
كيف تحول الحوثيون لورقة إيرانية:
كان بدر الدين الحوثي أحد أبرز الشخصيات الدينية المتأثرة بالمذهب الإمامي وهو ما أحدث الشقاق بينه وبين علماء الزيدية، ليسافر على خلفية هذا النزاع إلى طهران لعدة سنوات، ليعود إلى بلاده متشبعا ومروجا لمذهب الإمامية، وقام بإرسال شباب صعدة إلى الحوزات العلمية في إيران.
ووافق بدر الدين الحوثي الزيدي الجارودي، الإمامية في النص على الأئمة وحصرهم في نسل الحسين، كما وافقهم في تكفير غالبية الصحابة، وصرح بذلك قائلًا عن أصحاب رسول الله: “أؤمن بتكفيرهم لكونهم خالفوا رسول الله صلى الله عليه وآله”، مخالفا في ذلك عموم الزيدية.
ويعد حسين الحوثي -الابن الأكبر لـ بدر الدين-المؤسس الفعلي لجماعة الحوثيين، وأسس حزب “الحق” بعد فتح المجال للتعددية السياسية عام 1990، واحتل مقعدا في مجلس النواب، وأسس كذلك “تنظيم الشباب المؤمن” عام 1991.
وارتبط حسين كوالده بمرجعيات إيران، وسافر إلى قم، وتأثر كثيرا بالثورة الخمينية ومبادئها، وتلقى دورات تدريبية لدى حزب الله اللبناني الشيعي، بالإضافة إلى إقامة علاقات واسعة النطاق مع الحرس الثوري الإيراني.
الحوثيون يحملون السلاح:
حوّل حسين الحوثي مدرسته التعليمية التي يقوم عليها إلى ميليشيات مسلحة- في ظل حالة الفراغ الأمني والتنموي التي أحدثها نظام علي عبد الله صالح، وانكماشه داخل صنعاء- وخاض ضد الحكومة عدة حروب ابتداء من 2004، خلفه في قيادتها بعد مقتله، شقيقه “عبد الملك الحوثي” الزعيم الحالي للحوثيين.
وفي هذه الفترة ظهر التعاطف الإيراني مع المتمردين الحوثيين، وأقحمت وسائل الإعلام بطهران النعرة الطائفية في الحرب، واعتبرت أنه اضطهاد للشيعة عموما سواء كانوا من الزيدية أو الإمامية.
وقام عبد الملك الحوثي بتوسيع نطاق الصراع، وفتح جبهات قرب صنعاء، وتلقى دعما عسكريا كبيرا من طهران خاض به حربه ضد الحكومة اليمنية الضالعة في إطالة أمد القتال دون حسمه.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أشير إلى أن قادة الحراك الجنوبي وأبرزهم علي سالم البيض قد اتجهوا للحصول على الدعم الإيراني، ونزل البيض في ضيافة حزب الله، وفتحت له دمشق وطهران ولبنان لتكون مراكز لتدريب نشطاء الحراك، وبذلك لم تقم ثورة اليمن 2011 إلا ولدى إيران ورقتان للسيطرة على الداخل اليمني.
وقامت الثورة:
وخلال ثورة 2011 تعمد الحوثيون الظهور بصورة تميزهم، ثم كانت المبادرة الخليجية التي أنقذت علي عبد الله صالح، لتظهر بعدها الأموال الإيرانية والدعم الإعلامي للحوثيين، في محاولة عرقلة المسيرة السياسية للبلاد.
وتنامى الدور الإيراني في دعم الحوثيين عقب تشكيل حكومة الوفاق الوطني وتولي عبد ربه منصور هادي منصبه كرئيس توافقي، واستقطبت عددا من الكيانات الاجتماعية والنخب السياسية والإعلامية لتدافع عن التدخل الإيراني في اليمن.
وخلال حالة انعدام الاستقرار دفعت إيران ذراعها اليمني “الحوثي” لتوسيع النفوذ العسكري في البلاد، ودخل الحوثيون في حروب مع الأطياف المعارضة، مثل السلفيين في دماج وكتاف، وقبائل محافظة حجة، وسيطروا على عمران حتى وصلت الميلشيات إلى صنعاء واحتلتها، حتى صارت جماعة الحوثي هي المهيمنة على الوضع في اليمن، وهو ما أدى إلى استقالة هادي، تبعه إعلانهم الدستوري الذي هو بالأصل انقلاب مسلح.
طوال هذه الفترة، والدعم الإيراني مستمر، سواء تمثل في شحنات أسلحة، أو أموال، أو شراء ذمم رخيصة سهلت سيطرة الحوثيين.
أبرز المصالح الإيرانية في اليمن:
تمثل اليمن حلقة هامة في الهلال الشيعي الذي تنشده إيران عبر مشروعها التوسعي المصدِّر للثورة الخمينية، حيث تعد اليمن هي الرأس الجنوبي للهلال.
وتسعى إيران عن طريق السيطرة على اليمن من حصار الأراضي السعودية معاقل السنة، لمواجهة الفكر السلفي الوهابي بحسب تسميتهم له.
كما تسعى إيران من خلال نفوذها في اليمن إلى السيطرة على مضيق باب المندب بما له من أهمية استراتيجية لحركة التجارة العالمية للضغط على الدول الغربية.
عوائق تمرير المشروع الإيراني في اليمن:
نستطيع القول وفق آخر المعطيات على الساحة، أن المشروع الإيراني باليمن يواجه عدة عوائق تحول دون تمريره، أبرزها:
أولًا: المشاريع التوسعية أرهقت الخزانة الإيرانية، ففي سوريا تدفع إيران فواتير الحرب بالكامل، وحافظت على الاقتصاد السوري لنظام الأسد من الانهيار رغم طول أمد الحرب.
كما أنها تدعم حزب الله في سوريا بالمال والسلاح، وبمثله تدعم الميلشيات الشيعية التي كثرت وانتشرت في العراق.
وإضافة إلى ذلك تدعم الأنشطة الاقتصادية والخدمية والاجتماعية في العديد من بلدان العالم في الشرق والغرب لنشر التشيع وتصدير المشروع، وزد عليه الأزمة الاقتصادية التي عانى منها بعد خفض سعر النفط.
ثم ها هي بعد كل هذا الدعم للحوثيين، عليها أن تتحمل اصطدام الحوثيين بالالتزامات الخدمية وتسيير الأمور الحياتية والمعيشية للمواطنين.
ثانيا: هناك إرهاصات ليقظة خليجية تتصدى للمشروع الإيراني في ظل القيادة السعودية الجديدة ودورها الرائد بين دول التعاون الخليجي، بالإضافة إلى التقارب السعودي القطري التركي، ولعل أبرز الإشارات ما كان من إقرار دول الخليج مؤخرا بأن ما يحدث في اليمن من قبل الحوثيين انقلاب مرفوض.
ثالثا: على الحوثيين وسادتهم الإيرانيين التصدي للقبائل الرافضة لانقلاب الحوثي وعلى وجه الخصوص قبائل مأرب، علما بأن هذه القبائل لديها أسلحة نوعية متطورة، وهناك أنباء عن تلقيها دعم عسكري من دول المجلس.
رابعًا: سيكون على الحوثيين مواجهة تنظيم القاعدة في اليمن، والذي بدأ في الدخول على خط المواجهة بشكل نسبي.
وقلت سابقا وأكرر: أن إيران وذراعها الحوثي لن يستطيعوا الهيمنة على اليمن، لأسباب عدة أبرزها تركيبة المجتمع اليمني وقيامه على التوازنات القبلية، ومن ثم فلن يهنأ الحوثيون في تقديري الشخصي بالإمساك بزمام الأمور في الدولة، وسيكون الحوثيون هم الورقة الخاسرة على الطاولة اليمنية.