السعودية وإيران: بين ضرورات الاحتواء وواقع التوازنات المتغيرة

انطلاقًا من مقتضيات المهنية الصحفية، التي تُحَتِّم علينا تجاوز الانفعالات والانتصارات العاطفية، يُملي علينا الواجب أن نُقارب العلاقة السعودية الإيرانية من منظور تحليلي، يتجاوز الاصطفاف الأيديولوجي، مع التأكيد على انحيازنا المبدئي للموقف السعودي، انطلاقا من ثقة راسخة في حكمة صانع القرار في الرياض، وقدرته على توجيه بوصلة المنطقة نحو الاستقرار دون التفريط بالثوابت ومن يقول غير هذا “اتّكاء على بعض الوقائع السلبية” فهو شأنه… نحن ننظر للمشهد كله بحُلوه ومُرّه.. ولا نُركّز على الجزئيات التي يُطنطن حولها بعض القوم ويختزلون السعودية بها وحدها..

لقد وجدت المملكة العربية السعودية نفسها أمام علاقة “اضطرارية” مع طهران، فرضتها موازين قوى إقليمية معقدة، واستحقاقات سياسية ودبلوماسية حالت دون الانزلاق إلى هاوية المواجهة المفتوحة، في لحظة يتكالب فيها العالم على المنطقة، وتُعاد فيها هندسة التحالفات والمصالح.

قراءة سعودية حذرة في ظل التصعيد الإيراني-الإسرائيلي :

الحرب الخاطفة التي اندلعت بين إيران وإسرائيل في ربيع عام 2025، والتي لم تتجاوز أسبوعين، كانت جرس إنذار استراتيجي للرياض، يؤكد عبثية الانخراط في حروب بالوكالة أو من خلف الستار.
إذ أثبتت التجربة أن لغة المدافع لا تصنع مستقبلًا، وأن الأمن لا يتحقق بالصواريخ بل بالدبلوماسية الرصينة والتنمية المستدامة.
وقد أظهرت المملكة، في هذا السياق، وعيًا عاليًا بتعقيدات المشهد، ورفضًا لأي توظيف طائفي أو مذهبي يهدد السلم الإقليمي.

وفي ظل هذا التصعيد، أدركت الرياض أن الاستقرار في الخليج العربي لا يتحقق عبر الانحياز لمحاور الصراع، بل ببناء توازنات دقيقة تحمي الداخل، وتُحصّن العمق العربي والإسلامي من عبث المشاريع التوسعية.

من المبادرة العربية إلى نظرية “تصفير الأزمات” :
لا يمكن قراءة الموقف السعودي بمعزل عن الإرث السياسي الذي شكلته المبادرات التاريخية للمملكة، وفي مقدمتها “المبادرة العربية للسلام” التي أطلقها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في قمة بيروت عام 2002، والتي عرضت الاعتراف الكامل بإسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية.

لكن، وكما هو ديدن الاحتلال، قوبلت اليد الممدودة بالتصعيد، وتمادت تل أبيب في الاستيطان والمصادرة والقتل، ضاربة عرض الحائط بقرارات الشرعية الدولية، وهو ما جعل الرياض ثابتة في رفضها لأي تطبيع مجاني، معلنة أن الحل العادل للقضية الفلسطينية هو حجر الزاوية لأي علاقة مستقبلية مع إسرائيل.

إيران: من تصدير الثورة إلى “احتواء التراجع” :

من جهة أخرى، لا تخطئ عين المحلل الحصيف التحول التدريجي في سلوك طهران. فبعد عقود من تصدير الثورة وخلق بؤر التوتر عبر أذرعها في اليمن ولبنان والعراق وسوريا، بدأت الجمهورية الإسلامية – وتحت ضغط العقوبات والاستنزاف العسكري والداخلي – في اعتماد خطاب أكثر ليونة، وفتح قنوات خلفية للتقارب مع دول الخليج، وعلى رأسها المملكة.

لقد أثبتت حرب نيسان 2025 أن هذه الأذرع – من “حزب الله” إلى “الحشد الشعبي” – باتت أكثر انكفاءً وواقعية، وتُفضل اليوم المكاسب السياسية على الانخراط في مواجهات مفتوحة لا طائل منها. والحوثيون في اليمن، رغم خطابهم العدائي، ظلوا عاجزين عن تقديم دعم حقيقي لإيران حين دق ناقوس الخطر.

الرياض: مركز ثقل إقليمي مستقل عن واشنطن :
في هذا السياق، تبرز السياسة السعودية كرؤية استراتيجية مستقلة، لم تعد تقبل أن تُدار المنطقة من واشنطن وحدها.

فالمملكة، بما تمثله من عمق ديني ومكانة اقتصادية ونفوذ سياسي، باتت قادرة على تصدّر مشهد الحلول، لا بوصفها تابعًا لمحور ما، بل كقوة محورية تؤمن بأن أمن الخليج لا يُدار من الخارج، وأن استقرار الشرق الأوسط يبدأ من توافقات داخلية لا صفقات خارجية.

لقد رفضت المملكة الضغوط الأميركية التي دعت إلى تطبيع سريع وغير مشروط مع تل أبيب، وأصرت – كما جاء على لسان مسؤوليها – أن حل الدولتين، وقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس، هو السبيل الوحيد لأي علاقة مع إسرائيل.

نحو منظومة إقليمية جديدة :
ختاما، فإن التحول الإيراني من خطاب العسكرة إلى لغة “التودُّد”، وحرص طهران على فتح قنوات اتصال إقليمي، لم يكن ليحدث لولا صعود الدور السعودي وتماسكه.
واليوم، تبدو المملكة في موقع من يقود الإقليم لا من يُساق ضمن اصطفافات، ويبني سياسة خارجية تقوم على “تصفير الأزمات” لا فتح الجبهات.

وإن كانت الطريق لا تزال محفوفة بالمخاطر، فإن بوصلة الرياض – كما أثبت التاريخ – لا تخطئ وجهتها، ولا تساوم على أمنها القومي، ولا على قضايا الأمة الكبرى، وفي مقدمتها فلسطين.

مراجع واستشهادات داعمة:
المبادرة العربية للسلام – قمة بيروت 2002. (نص المبادرة على موقع جامعة الدول العربية)

تقرير معهد الدراسات الاستراتيجية IISS – لندن (2024) حول تراجع نفوذ إيران الإقليمي.

خطاب ولي العهد السعودي في منتدى دافوس 2025 – تناول فيه مفاهيم “الاستقلالية الاستراتيجية” و”تصفير الأزمات”.

مقابلة وزير الخارجية السعودي – قناة العربية 2025 – التأكيد على الموقف من التطبيع وربطه بحل الدولتين.

تحليل معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى (2025) حول أداء أذرع إيران في الحرب مع إسرائيل

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

لهذا يرفض الاحتلال حل الدولتين؟

مثّل الانتهاك الإسرائيلي للسيادة القطرية باستهداف قيادات حماس بالدوحة، محطة فارقة في مسار القضية الفلسطينية، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *