إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، لمرأى اللغة العربية وقد صارت مستهدفة على أرض تركيا، وريثة الإمبراطورية العثمانية العريقة، التي عاش تحت لوائها العرب والأتراك جنبا إلى جنب، تجمعهم مظلة الإسلام الذي أذاب الفوارق بين الأجناس والعرقيات والإثنيات واختلاف اللون واللسان.
انقسم الشعب التركي حيال استهداف اللغة العربية في بلاده إلى قسمين، الأول: يستنكر هذا العداء للغة العربية وعدم تقبلها في الظهور بمناحي الحياة التركية، ويؤكد على أخوة الدين مع العرب، وأنهم أمة واحدة، وحضارة واحدة، فهؤلاء نثمن لهم موقفهم العادل الواعي.
والثاني: يسهم في إظهار العداء بالفعل أو بالقول أو بالرضا تجاه العدوان على اللغة العربية، وإلى هؤلاء أقول:
أيها الإخوة الأتراك، وأناديكم بالإخوة لأنكم إخوتنا في رحاب الإسلام، الذي لم يفرق بين عربي أو أعجمي إلا بتقوى الله، هو ذاته الإسلام الذي مزج في بوتقته بين القرشي والفارسي والحبشي والرومي، وهو ذاته الإسلام الذي حمل رايته أجدادكم العثمانيون ودخل العرب تحت هذه الراية ولم يروا في حكمكم احتلالا، بل رأوا فيكم حماة للدين والأمة بأسرها، عربهم وعجمهم، لذلك أناديكم بالإخوة الأتراك.
أيها الإخوة الأتراك، لا أتسول منكم حسن المعاملة لإخوانكم العرب في تركيا، فهذا حق وواجب بميثاق الإسلام، وبمقتضى تلك الحضارة التي تشاركنا في صنعها جميعا، لم ينغلق أجدادكم في دائرة النعرات القومية، ولم يعملوا حتى على نزع سمات الشخصية العربية، فأين أنتم منهم يا ورثة الإمبراطورية العثمانية!
إن كانت تزعجكم اللافتات باللغة العربية، فهي لغة القرآن، وهي لغة الأذكار والدعوات المأثورة عن نبينا ونبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وإنكم إذا تنكرتم للغة العربية فإنما تفقدون هويتكم، فليس هناك إسلام بدون العربية، فهي اللغة التي تأسست بها حضارتنا الإسلامية التي لكم فيها نصيب وافر، ولذلك اعتنى أجدادكم باللغة العربية، فهي ليست لسانا يعبر عن قومية، إنما هي لغة حضارة جمعتنا سويًا.
إن كنتم تستاءون من اللغة العربية، فكيف تفعلون بهذا الحشد الهائل من الألفاظ المشتركة بين اللغتين، وكيف تفعلون بهذا الكم الهائل من المخطوطات التي كتبها بالحروف العربية علماؤكم ومفكروكم وقادتكم كأداة للتعبير الكتابي بعدما دخل الشعب التركي في الإسلام!
إننا لا نقل عنكم حبا للقادة العثمانيين العظام الذين رفعوا راية الإسلام وحكموا باسمه بلاد العرب، فإن كنتم تفتخرون بهم كما نفتخر، فانظروا إلى صنيعهم مع اللغة العربية، هذا أورخان ابن المؤسس عثمان، أقر تدريس عدد كبير من كتب التراث بالعربية، كألفية ابن مالك، والعوامل للجرجاني، وقطر الندى لابن هشام، وأساس التصريف للفناري، ومرح الأرواح لأحمد بن علي مسعود، وغيرها من الكتب العربية.
علماؤكم الذين بلغت شهرتهم الآفاق قد ألفوا كتبا باللغة العربية، كاتب جلبي الذي اشتهر باسم حاجي خليفة، صاحب الكتاب الشهير “كشف الظنون”، ألفه باللغة العربية، وهو من الكتب الببليوغرافية التي لها مكانتها الفريدة في الدراسات الإسلامية والعربية.
كتاب “الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية”، كتاب ذاعت شهرته بيننا العرب، مؤلفه مؤرخ ذو أصول تركية، هو عصام الدين طاشكبري زاده ، الذي ألف الكتاب باللغة العربية، وتُرجم في عهده والعهود التي تلته إلى اللغة التركية.
في عصر السلطان سليم الأول كان للعثمانيين اهتمامات قوية باللغة العربية، ومن دلائلها شخصية موسوعية عُرفت ببذل الجهود الضخمة في مجال اللغة العربية رغم أنه من الأتراك، وهو ابن كمال باشا.
أيها الأخوة الأتراك، عدد المخطوطات العربية في المكتبات التركية يقدر بحوالي 300 ألف مخطوط، وفي المكتبة السليمانية وحدها ما يقدر بحوالي 200 ألف مخطوط عربي، محاطة بعناية فائقة.
تسمّى معظم سلاطينكم بأسماء عربية، أختامهم كانت باللغة العربية، حتى أسماء السفن العثمانية كان كثير منها باللغة العربية: محمودية، مجيدية، سليمية……
أيها الأخوة الأتراك، إن كنتم تخشون من غزو اللغة العربية، فماذا فعلتم حيال انتشار اللغة الإنجليزية في شوارعكم وميادينكم ومنشآتكم، لا تنسوا أن الإنجليز قد غزوكم سابقا، بينما كان إخوانكم العرب معكم تحت راية واحدة طيلة أربعة قرون.
أيها الأخوة الأتراك، لم تكن اللاتينية ولا الإنجليزية ولا غيرها هي اللغة التي كانت حروفها تعبر عن تراثكم وتاريخكم، هي العربية لا غيرها، هي صوت الأذان والدعوات، هي لغة الكتاب المجيد الذي تضعونه على جباهكم تقديسا.
أيها الأخوة الأتراك، عندما تحتفلون بذكرى موقعة جناق قلعة والانتصار على الحلفاء، فاذكروا آلاف الشهداء العرب الذي رووا رمال تركيا بدمائهم الزكية، بعدما هبوا من سوريا وفلسطين والجزيرة العربية وغيرها من بلاد العرب، لنصرة إخوانهم في الدين، تاركين وراءهم كل نعرة قومية.
ويوم أن كاد الانقلاب الغاشم يعصف بتركيا في عام 2016م، نزل إخوانكم العرب إلى الشوارع معكم جنبا إلى جنب، دعما للدولة التركية، وتصديا للأجندات الخارجية التي تنفذ بأياد محلية، بينما كانت دعوات العرب في جميع الأصقاع تصعد إلى السماء، ابتهالا إلى الله بنصرة الحق والعدل في تركيا.
أيها الأخوة الأتراك، لا تغضوا أبصاركم عن حجم التحديات التي تواجه بلدكم، فقد أصبح مستهدفا من الغرب بأسره، المكائد تحاك ضدكم تترا، فمن سيقف في ظهوركم غير إخوانكم العرب، ومن يتحالف معكم غير إخوانكم العرب، العرب لا غيرهم، لأنهم أساس الإسلام، والوشيجة التي تربطهم بكم ليست وشيجة مصالح، وليس وشيجة أرض أو دم أو لغة، هي رابطة الدين الذي هو أقوى الأواصر والروابط.
كيف ستصنعون الحضارة إن أغلقتم الأبواب على أنفسكم في وجه القوميات الأخرى! كيف ستصنعون الحضارة إن لم تستوعبوا الآخرين وفي مقدمتهم العرب!
إن كنتم تخشون على أرزاقكم من أن يقاسمكم فيها العرب، فليس هذا بمنطق يليق بحملة راية الإسلام على مدى قرون، فأرزاقكم وأرزاقهم بيد الرزاق سبحانه، ثم إن إخوانكم العرب على أرضكم ليسوا بعالة، وكثير منهم يستثمرون في بلدكم، وكثير منهم يعرقون ويكدون لا يتسولون..
فَلِمَ الخوف؟
أيها الأخوة الأتراك، لا أعلم إن كان صوتي سيصلكم أم تحجبه العوائق، لكنني تعلمت من خليل الله إبراهيم، أن على المرء النداء، وعلى الله البلاغ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.