تختلف المنظومة الأخلاقية في الإسلام عن غيرها من المنظومات الأخلاقية الخاضعة لنسبية القيم، والتي يضعها المجتمع وفقا لاستحسانه ضمن العقد الاجتماعي، ويضع بنفسه معاييرها ومحدداتها، ثم يتنكر لها إذا تعارضت مع مصالح الزمرة المتنفّذة.
منظومة الأخلاق التي جاء بها الإسلام ربانية المصدر، فهي أخلاق تنسجم مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، وفي نفس الوقت مستمدة من التشريع الرباني، سواء ما أثبته التشريع ابتداءً، أو ما أقرّه من الأخلاق التي تعارف عليها الناس ووافقت التشريع.
ولأنها ربانية المصدر، فلم يتركها الشارع لعادات الناس وذائقتهم واستحسانهم العقلي، فالعادات والعقل لا يصلحان لوضع ملامح الإطار الأخلاقي، نظرا لتغيرهما واختلافهما من بيئة لأخرى، ومن إنسان لآخر، وكما يقول الدكتور محمد العبدة: العادات قد تعمي الضمير الداخلي، والعقل قد يسخر نفسه لخدمة الغرائز البهيمية».
ولأنها ربانية المصدر قد حدد الكتاب والسنة ملامحها، فهي تتسم بالثبات، لا تدور في فلك المصالح الجزئية الضيقة لكل فئة ما أو دولة ما، وميزانها لا يتغير بتغير الأشخاص ولا الأزمنة ولا الأمكنة ولا حتى بتغير العقائد والملل.
خلق العدل في المنظومة الأخلاقية الإسلامية مثلا، هو قيمة ثابتة حتى مع الخصم والمخالف، فقد أنصف اليهود مع شدة عداوتهم للمؤمنين، ولم يجحف ما يظهر من شمائل خيرٍ فيهم، ويكفي أن القرآن شهد لبعضهم بأنهم أمناء {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75].
ويقول عن ملكة سبأ التي استشارت قومها بشأن الرد على رسالة نبي الله سليمان {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34].
جاء في تفسير ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما: قَالَتْ بِلْقِيسُ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}، قَالَ الرَّبَّ، عَزَّ وَجَلَّ {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}.
فهذه المرأة مع كونها تعبد الشمس من دون الله، قد صدّق القرآن حديثها عندما صدقت فيه.
وألزم الإسلام باتباع خلق العدل مهما كانوا بعيدين ومهما ناصبونا العداء كما قال الله تعالى، وأكد على ضرورة اتباع العدل وعدم التنكر له بسبب عداوتهم {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
لقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ خضوع الجميع بلا استثناء للقانون الرباني، عندما قال (لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)، وهي صورة فريدة في إقامة العدل بين الناس.
ولقد أفاض التاريخ الإسلامي بيانه بشأن تمثّل قيمة العدل واقعا في حياة المسلمين مع أصحاب الملل الأخرى، فيحكي ابن كثير واقعة عظيمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عندما سقط درعه وأخذه رجل نصراني فتخاصما إلى القاضي شريح، يقول ابن كثير في البداية والنهاية: «ثم قال (أي علي): هَذَا الدِّرْعُ دِرْعِي وَلَمْ أَبِعْ وَلَمْ أَهَبْ. فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلنَّصْرَانِيِّ: مَا تَقَولُ فِيمَا يَقُولُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا الدِّرْعُ إِلَّا دِرْعِي، وَمَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدِي بِكَاذِبٍ. فَالْتَفَتَ شُرَيْحٌ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ ؟ فَضَحِكَ عَلِيٌّ وَقَالَ: أَصَابَ شُرَيْحٌ، مَا لِي بَيِّنَةٌ. فَقَضَى بِهَا شُرَيْحٌ لِلنَّصْرَانِيِّ. قَالَ: فَأَخْذُهَا النَّصْرَانِيُّ، وَمَشَى خُطًى ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ الْأَنْبِيَاءِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدَّمَنِي إِلَى قَاضِيهِ، وَقَاضِيهِ يَقْضِي عَلَيْهِ ! أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدِّرْعُ وَاللَّهِ دِرْعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اتَّبَعْتُ الْجَيْشَ وَأَنْتَ مُنْطَلِقٌ إِلَى صِفِّينَ فَخَرَجَتْ مِنْ بَعِيرِكَ الْأَوْرَقِ. فَقَالَ: أَمَا إِذْ أَسْلَمْتَ فَهِيَ لَكَ. وَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ».
إنما نسلط الضوء على هذا الخلق، تبيانا لعظمة البناء الأخلاقي في الإسلام، ليكون المسلم معتزا بدينه، وهو يعلم طبيعة المنهج الإسلامي، وأن ما يظهر به بعض المسلمين من أخلاق الظلم والجور، لا يعبر عن المنهج، وإنما كان غرقهم في الظلم ناتجا عن بعدهم عن ذلك المنهج، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.