من قال إن أهل غزة هم عنوان الصمود لم يتجاوز الحقيقة؛ فمع ما يتعرضون له من مجازر تُصنف على أنها الأبشع في هذا العصر، وفي ظل اجتماع شبح الموت مع خواء البطن وما يتراءى من انسداد الأفق، فإنهم ما زالوا واقفين على أقدامهم.
كثير منهم فقدوا شغفهم في الحياة، واعتبروا أنفسهم في عداد الصفوف المقبلة على الموت، متى يحين دور الواحد منهم يُسلم روحه إلى بارئها، وهو ينتوي شكاية البشرية الجائرة إلى رب العالمين.
تناهى إلى علمي قول بعضهم إن هذه الحياة القاسية لا تليق بهم، إنما مكانهم في السماء، فماذا تغني عنهم النجاة وقد فقدوا أبناءهم وآباءهم وأزواجهم وأصفياءهم ممن تطيب بهم الحياة؟.
هذا الشعب قد صقلته المحن، لم يعتد يومًا حياة الدعة ورغد العيش، فهو المُحاصَر المقاوِم، ألِفَتْ عيون بنيهِ مرأى الرموز الشامخة، الذين صارت أخبارهم يسير بها الركبان؛ أحمد ياسين، والرنتيسي، ويحيى عياش، وصلاح شحادة، وإسماعيل هنية.. والقائمة طويلة لمن غرسوا بنضالهم وكفاحهم في هذا المجتمع، ونعم الغرس!.
لذا، لم يكن غريبًا على أهل غزة رغم اشتداد المحنة، أن يكونوا ظهيرًا لأبنائهم المقاومين، تلوح من أعينهم حين يتحدثون أمارات التحدي للصهاينة، يستخفون بالأطلال والأنقاض وهم يهتفون: نحن فداء للأقصى، افعل ما شئت بنا يا نتنياهو فلن نركع.. شأنهم كسحرة فرعون الذين آمنوا وواجهوا تهديدات الطاغية بقولهم {فاقض ما أنت قاض إنّما تقضي هذه الحياة الدُّنيا}.
هذه الجماهير- رغم قساوة المشهد- لم تنقلب على مقاومتها، ولم تسلمها إلى أعدائها. ولا يحدثني أحد أن عدم ثورتها على المقاومة هو بسبب الخوف من حركة حماس وجهازها الأمني، فإن الموت والجوع والخوف يُخرج الناس عن التزام الصواب، والذي فقد أهله ويواجه الموت كل لحظة مم يخاف؟
وكما أنه يقال في القاعدة الفقهية “النادر لا حكم له”، فكذلك الأمر في الحالات النادرة التي ظهر فيها بعض ضعاف النفوس الذين عملوا لصالح الصهاينة في غزة، فهؤلاء لا يعبرون عن حال سكان القطاع.
وفي مقابل الظهور الإيجابي المعبر عن صمود شعب غزة والتفافه حول المقاومة، يظهر بعض الأفراد معبّرين عن سخطهم على المقاومة، واتهامها بالتسبب فيما يعانيه القطاع، ويصبون جام غضبهم على السنوار وأبي عبيدة وقادة المقاومة.. وبطبيعة الحال، تتلقف المنابر الإعلامية الضالة المضلة مثل هذه الأنباء، وتقوم بالطنطنة حولها لإظهار المقاومة في صورة الجماعات المتطرفة، الباحثة عن مصالحها السياسية والحزبية ولو على أشلاء الشعب المقهور.
هذه العينات حقيقة لا يمكن إنكارها، ومن يحاول إنكارها وتكذيبها فهو يضر المقاومة ولا يفيدها بشيء.
لكن، ينبغي أن يقال إن أهل غزة بشر، تتفاوت طاقاتهم وقدراتهم على الصمود، من الطبيعي أن يضعف فئام منهم، أو يعبروا عن سخطهم إزاء ما يعانون من دمار مساكنهم، ونزوحهم المستمر، وقلة الزاد وشظف العيش، والأدهى من ذلك فقدان الأحبة.. هم ليسوا ملائكة حتى ننتظر منهم المثالية في مواقفهم.
هذا الضعف البشري الذي ينتاب البعض منهم، ويُفقدهم صوابهم ويدفعهم إلى إظهار السخط، هو أمر مألوف في الأزمات، ومن الطبيعي في هذه الحالات أن ينقم البعض على ولاة أمورهم ويلقوا باللائمة عليهم، حتى وإن كانوا لم يتسببوا في أزمتهم بشكل مباشر.. ومن هنا استوعب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) سخط المرأة التي بلغ بها وبأولادها الجوعُ مبْلغه، فقالت له، وهي لا تعرفه: “الله بيننا وبين عمر”، قال: رحمك الله، وما يُدري عمر بكم؟ قالت: “يتولى أمرنا ثم يغفل عنا”.
لكن من غير المقبول أن يتم التعامل مع حالات الضعف البشري هذه على أنها خيانة للقضية، والذي يذهب إلى ذلك الظن يتحدث غالبا وهو آمن في سربه ممتلئ البطن متكئًا على أريكته، يلتهم المكسرات ويضرب أزرار هاتفه مهاجمًا إياهم، فالجميع شجعان أشاوس قطعًا وهم خلف الشاشات.
ومن غير المقبول أيضًا، أن يتم استغلال حالات السخط هذه، والادعاء بأنها تمثل الحال التي وصل إليها أهل غزة؛ فهو من ناحية تزويرٌ للواقع الذي يُظهر أن الغالبية من سكان غزة لا نقمة لهم إلا على نتنياهو وحكومته المتطرفة، وعلى المتخاذلين عن نصرة غزة من الأمة الإسلامية والأمة العربية، وعلى المجتمع الدولي الذي يكيل بمكيالين كالعادة.
ومن ناحية أخرى فهو من عمل المرجفين الذين انطوت سرائرهم على كراهية المقاومة، التي فضحت المطبعين والمتصهينين من أمتنا، وفيها كذلك ترديد للرواية الإسرائيلية التي تريد أن تقنع العالم بأنها تحارب عصابة إرهابية لا الشعب الفلسطيني الذي لا يقبل بها في النيابة عن قضاياه.
هناك لا شك فئة من أهل غزة يلومون في قرارة أنفسهم فصائل المقاومة، ويتهمونها بالعجلة والتسرع وعدم تقدير الأمور بشكل صحيح، ويودون لو أن طوفان الأقصى لم ينطلق، لكنهم مع ذلك يلتزمون الصمت، رضًا بقضاء الله وحرصا منهم على عدم المشاركة في التشغيب على المقاومة، التي هي في الأصل تتألف من فلذات أبنائهم.
هؤلاء- على الرغم من الضعف الذي تسلل إليهم- يستحقون كل تقدير، لتقديمهم المصالح العليا على شؤونهم الخاصة، وحرصهم على ألا يكونوا شوكة في ظهر المقاومة التي تناضل ضد المحتل الصهيوني.
مثل هذه الأوجه من الضعف البشري ينبغي استيعابها، وعدم القسوة في الحكم عليها، والأهم من ذلك عدم استغلالها لتصفية حسابات سياسية وأيديولوجية مع المقاومة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.