كثيرًا ما كان يردد «نحن مشاريع شهادة»، عاش حياته مجاهدًا مناضلًا، تنبئك أحواله بأن هذا الرجل لم يكن سوى شهيد يمشي على الأرض. تبوأ عدة مناصب قيادية في حركة أقضت مضاجع الصهاينة وأعوانهم، لكنه مع ذلك كان ابن المخيم والحارة والشارع، يرتدي الدشداشة ويجلس بها أمام دار بيته، ويلعب الكرة مع الشباب، ويؤم المصلين فيبكي ويبكيهم، ويمشي في حاجة جيرانه ويتفقد أحوالهم.
هنيئًا لأبي العبد إسماعيل هنية الشهادة، نحسبه قد نالها ولا نزكيه على الله، بعد عقود من البذل والعطاء، ولئن كان قد فارق الدنيا، فإنه قد فارق حياة النصَب والمعاناة والظلم إلى دار السلام بإذن الله تعالى، في الحياة الأبدية التي كان يتحدث عنها معلمه وقائده الشيخ أحمد ياسين رحمه الله: «هذه الدنيا فانية، نحن نريد الحياة الأبدية».
سيظل أبو العبد حيًا بسيرته الطيبة، حيًا بأفعاله وأقواله من أجل نصرة الحق ونصرة القضية، ونحسبه قد أدى ما عليه ووفى.
لطالما تعرض هنية للظلم والأقاويل الباطلة التي نالت منه، لكنه لم يكن يرد على خصومه بالكلمات الرنانة، بل كان واقعه وأحواله تنبئ عنه وتبرئ ساحته، وكم أطلقوا فيه الألسنة وادعوا أنه أخرج عائلته من غزة ويعيشون في فنادق الدوحة في الوقت الذي يموت الآلاف من شعب غزة، لكن أبى الله إلا أن يدحض افتراءاتهم بعد أن كانت تزف إليه أنباء استشهاد أبنائه وأحفاده وعائلته جملة وفرادى على مرأى ومسمع العالمين، حتى بلغ من فقدهم من عائلته ستين شهيدًا، وهو صابر محتسب، يردد: إن دماءهم ليست بأغلى من دماء غيرهم من الفلسطينيين.
وها هو بموته على يد الصهاينة يرد على فئام من القوم زعموا أنه تاجر حروب يخدم العدو الصهيوني، فها هو العدو الصهيوني يغتاله، لتبطل ادعاءات المفترين الذين روجوا أن هذا المجاهد المناضل أداة صهيونية.
لم يمت أبو العبد، إنما مات أولئك الذين فاقوا الصهاينة في الشماتة والاحتفاء بموته، وكأن الذي قتل لا يربطهم بهم دين ولا تربطهم به عروبة، فلا للدين امتثلوا ولا للعروبة صانوا ولا للإنسانية انتسبوا، فهؤلاء مآلهم إلى مزابل التاريخ عندما يجيء الحق ويزهق الباطل.
مات أولئك الذين أظهروا في موت هنية مدى عدائهم للقضية الفلسطينية التي تكشف خيانتهم وتبعيتهم وهرولتهم خلف التطبيع، متجاهلين أن المقاومة الفلسطينية قد نابت عن الأمة في معركة مصيرية والتصدي لخطر جسيم يحيق بالأمة كلها لا فلسطين وحدها.
هؤلاء الشامتون في موت هنية لن يفرحوا طويلًا، فالمقاومة ليست أشخاصًا، إنما هي فكرة، والأفكار لا تموت. عندما استشهد المؤسس الشيخ أحمد ياسين رحمه الله وفرح بذلك أصحاب الضمائر الميتة، لم تزدد المقاومة إلا بأسًا وشدة، وعلى الدرب ارتقى الكثيرون، كلما استشهد قائد برز عشرة، وبين استشهاد ياسين واستشهاد هنية عقدان من الزمن تطورت فيهما المقاومة تنظيمًا وتسليحًا وكفاءة بما أذهل العالم بأسره.
وكما قال الإمام أحمد لخصومه «بيننا وبينكم الجنائز»، نأمل أن نعيش لكي نرى جنائز هؤلاء الشامتين وكيف تتعامل الأمة مع أحداث موتهم، أما هنية فقد تدفقت الجماهير في العديد من المدن العربية والإسلامية لأداء صلاة الغائب على فقيد الأمة، وقامت مظاهرات عدة تنديدًا باغتياله، وتهافت الناس على مواقع التواصل الاجتماعي لبث كلماته وخطبه وتصريحاته وتلاوته في الصلاة، كل هذا يحدث قبل أن يوضع جثمانه في قبره، فحتى وقت كتابة هذه السطور ينتظر أهل قطر الكرام وصول جثمانه للصلاة عليه في مسجد محمد بن عبد الوهاب بالدوحة، فهي الأرض التي استقبلته وأكرمته حيًا، ها هي تستقبله وتكرمه ميتًا.
رحمك الله أبا العبد وتقبلك في الشهداء، وجعل موتك نورًا ونارًا، نورًا للمناضلين المخلصين، ونارا على الطغاة المجرمين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.