في عددها الأخير الصادر يوم الخميس الماضي، وجّهت مجلة “النبأ” التابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) اتهامات غير مسبوقة إلى الحكومة السورية الجديدة برئاسة “الشرع”، متهمة إياها بـ”تقديم تنازلات سياسية وأمنية للولايات المتحدة”، وذلك في سبيل رفع هيئة تحرير الشام من لائحة الإرهاب الدولية.
وبحسب ما ورد في المجلة، فإن هذه التفاهمات جرت خلال لقاء مزعوم جمع الرئيس السوري الجديد بالرئيس الأمريكي في العاصمة السعودية الرياض، بحضور ولي العهد السعودي، في شهر مايو/أيار الماضي. وقد حمّلت المجلة الحكومة السورية مسؤولية “خدمة المصالح الأمريكية والإسرائيلية”، في إشارة إلى ما وصفته بتسهيل عملية استعادة إسرائيل لرفات جنودها الثلاثة من سوريا، بالإضافة إلى “وثائق شخصية” تعود للجاسوس الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين، الذي تم إعدامه في دمشق عام 1965.
“حين تصبح الجغرافيا رهينة السياسة، فإنّ التاريخ يكتب بيد العدو”
* إدوارد سعيد
==
الانكماش الميداني والتمدّد في الفراغ :
منذ انهيار منظومة الأسد القديمة، انكمشت العمليات العسكرية لداعش في سوريا إلى أدنى مستوياتها، وتحديدًا في بادية دير الزور، ريف الرقة، تدمر، وصحراء حمص. إلا أن التنظيم استغل الفراغ الأمني، والتفكك المؤسسي، وغياب السيطرة الفعلية للدولة، ليعيد الانتشار بأسلوب الخلايا، ويتسلل إلى المدن والقرى، مستخدمًا أدوات “الظلّ والكمين” بدلاً من رايات السيطرة العلنية.
وفي محاولة لتطويق نفوذه، تتولى الفرقة 70 من الجيش السوري الجديد – المعروفة سابقًا باسم “جيش سوريا الحرة” والمدعومة من الولايات المتحدة – مسؤولية ملاحقة عناصر التنظيم في المساحات الممتدة من معبر التنف على الحدود العراقية، مرورًا ببادية دير الزور، ووصولًا إلى تلول الصفا في بادية السويداء، التي شهدت قبل يومين عملية تمشيط عسكرية إثر معلومات عن وجود خلايا نائمة في المنطقة.
وخلال تلك العملية، انفجرت عبوة ناسفة قرب مركبة تابعة للفرقة، ما أدى إلى مقتل مدني وإصابة ثلاثة من أفرادها، في مشهد يعيد إلى الأذهان “تكتيك العبوات” الذي لطالما استخدمه التنظيم لتقويض التقدّم الأرضي.
==
هيكل الفرقة 70: خليط من الانشقاق والتدريب الأمريكي :
يقود هذه الفرقة عصام بويضاني (الملقب بـ”أبو همام”)، القائد السابق لـ”جيش الإسلام”، والمعتقل حاليًا في الإمارات العربية المتحدة. ويتولى المقدّم علي عبد الباقي رئاسة الأركان، فيما يقود اللواء 76 العقيد ضرار هيشان، واللواء 72 يوسف الغزاوي. أما الملف الأمني، فيديره أحمد عبد الكريم التامر (أبو زيد)، وهو من بلدة مورك بريف حماة، ويقود مجموعة أمنية درّبتها الولايات المتحدة في قاعدة التنف، بعد أن كان قد فرّ إلى تركيا إثر اختلاس مالي من “درع القلمون”، قبل أن يعود ويلتحق بالقوات الأمريكية عام 2020.
==
قسد: سلطة محدودة ومتهم دائم :
يُلاحظ غياب شبه تام لـقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في ملف ملاحقة داعش خارج نطاق سيطرتها المباشرة (الرقة، دير الزور، الحسكة). ومع ذلك، تُثار اتهامات خطيرة لقسد في بعض العمليات الأمنية، منها ما رُوّج له عن تفجير كنيسة في حي دويلعة بدمشق، حيث اتّهمت الحكومة التنظيم بالمسؤولية، وزعمت أن المنفذ هو محمود رمضان علي الصالح، الملقب بـ”داهيك”، وهو معتقل سابق لدى قسد، وكان محتجزًا في مخيم الهول قبل أن يُهرَّب إلى دمشق.
وتُشير مصادر أمنية إلى أن عمليات التهريب من مخيم الهول تجري مقابل مبالغ مالية، برعاية بعض المنتسبين إلى “قسد”، وهي حقيقة أكدتها تقارير من شبكة التحقيقات Bellingcat وصحيفة الغارديان البريطانية، التي أشارت إلى تحول المخيم إلى “سوق رمادية للتهريب والإفراج غير المعلن”.
“عندما يتحول السجن إلى مفاوض، ينقلب القانون إلى مزاد”
– مثل سياسي
==
الإعلام الرمادي: تضخيم لخطر داعش أم استثمار في الخوف؟
يتزامن مع هذه الحوادث تصعيد إعلامي ممنهج من جهات يُعتقد بارتباطها بـ”قسد”، حيث يتم تضخيم تهديد داعش إعلاميًا في محاولة لإقناع التحالف الدولي بعدم الانسحاب الكامل من سوريا، أو التخلي عن قسد لصالح الحكومة المركزية.
ويُركّز الخطاب الإعلامي على:
-المبالغة في عدد سجناء التنظيم.
-تصويرهم كـ”قيادات نوعية” تمتلك خبرات عسكرية وأمنية.
-الحديث عن خطر انفجار السجون في حال غياب الدعم الدولي.
إلا أنّ هذه السرديات تصطدم بالحقائق الميدانية، حيث تُظهر معظم التقارير أن القيادات الميدانية لداعش تُقتل غالبًا ولا تُعتقل، وأن نسبة كبيرة من المحتجزين هم إداريون، أو مشتبه بانتمائهم، أو حتى أطفال وكبار سن لم تتم محاكمتهم حتى اليوم، وفق تقرير الأمم المتحدة 2024 حول الأوضاع في شمال شرق سوريا.
===
الإعلام الجهادي: بين التضليل والانتحال:
مؤخرًا، تداولت وسائل التواصل إصدارًا بعنوان “هذا بلاغ للناس”، قيل إنه رسمي من إعلام التنظيم، إلا أن التحقق الفني أثبت أنه لا يعود لقنواته الرسمية، بل يرجح أنه نتاج مبادرة فردية من مؤيدين أو عناصر منشقة.
العمليات الحالية: انكماش واضح، مع هجمات نوعية محدودة
وفق متابعة إحصائية لمجلة “النبأ”، فإن معدل العمليات الأسبوعية لداعش في سوريا لا يتجاوز عملية إلى عمليتين، ومعظمها يتم في مناطق نفوذ “قسد”، فيما لم يُسجل حتى الآن أي اشتباك مباشر مع الجيش السوري أو قوات الأمن الداخلي. ويُذكر أن التنظيم تبنّى تصفية عنصرين من الفرقة 86 (التي كانت تُعرف سابقًا بـ”جيش الشرقية”)، وأسر عنصرين آخرين في كمين مزدوج.
وفي المقابل، وبتاريخ 10 يونيو/حزيران، عثرت “قسد” على جثة “أبو إسلام القرشي” مذبوحًا قرب مدينة الميادين، وهو مسؤول الاغتيالات في محافظة دير الزور واسمه الحقيقي راكان العكلة، ما يرجّح أن يكون مقتله نتيجة تصفية داخلية أو عملية انتقامية من جهة مجهولة.
في النهاية نقول:
بين الجغرافيا والسياسة، تُكتب رواية الدم ..
يبقى ملف “داعش” في سوريا مثالًا صارخًا على التوظيف المزدوج للمأساة، حيث يُستخدم التهديد كمبرر للشرعية، ويُوظف الأمن كرافعة للمصالح الدولية والمحلية. وبين اتهامات التنظيم للحكومة بالخيانة، واتهامات الحكومة للتنظيم بالإرهاب، يظل المواطن السوري ضحية لعبة أمم معقدة، تتداخل فيها أجهزة الأمن، وقنوات التفاوض، وجيوش الظل.
و
“ما من شيء أكثر إثارة للريبة من الحرب التي لا يُراد لها أن تنتهي”
كما قال جورج أورويل !
===
إحسان الفقيه
==
مراجع مختارة:
Human Rights Watch – Detention abuses by SDF, 2023
UN Syria Commission Report, March 2024 – Northeast Syria Prisons and Camps
Bellingcat Report – Escape networks in al-Hol Camp, 2023
[Al-Naba Magazine, Issue #XXX, July 2025 – ISIS Central Media] [The Guardian, “Inside al-Hol Camp: ISIS Families and Secret Deals”, Nov 2023]