في وادٍ غير ذي زرع، كانت هاجر التي أنهكها الظمأ وجف ثديها وصرخ رضيعها، تقطع الأشواط بين الصفا والمروة طلبا للغوث.
أصغت سمعها لصوت الماء الذي ينبع من الأرض، فعلمت أنه ثمرة يقينها بربها، فشربت من زمزم وأرضعت الصبي، فهدأت النفس واطمأن القلب.
تأتي قبيلة جرهم اليمنية إلى الماء بعدما أرشدها حومان الطيور، ويستأذن رجالها المرأة الضعيفة الوحيدة برضيعها في المقام حول زمزم، فتأذن لهم.
لقد كان عرفا سائدا فرضه الإطار الأخلاقي العربي، في أن السابق إلى المكان هو الأولى به، ومن العار منازعته إياه.
وبعد بناء الكعبة، ظلت قبيلة جرهم أصهار إسماعيل عليه السلام، هم القائمين على بيت الله الحرام، ولم ينازعها أحد في هذا الشرف، إلى أن أجلتهم “خزاعة” فصارت لهم الوصاية على الكعبة.
استمرت وصاية خزاعة على الكعبة بضع قرون، قال المسعودي في كتابه “مروج الذهب”: ” كانت ولاية البيت في خزاعة ثلثمائة سنة”.
استمر حكم خزاعة لمكة البلد الحرام حتى جاء قصي بن كلاب والمسمى بـ قريش الأصغر، وأخرجهم منها، لتؤول الوصاية على البيت إلى قريش، والتي اكتسبت منزلتها الدينية والاقتصادية بسبب رعايتها للبيت، ولم تنازعها القبائل العربية الأخرى في إدارة بيت الله الحرام.
وبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، كان الخوف يساور صناديد قريش في أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمح إلى السيطرة على البيت الحرام وانتزاع السيادة والرفادة من قريش، حتى هاجر وأسس دولته في المدينة.
ومنذ أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا وإلى اليوم، يتولى آل الشيبي سدانة الكعبة المكرمة، والذين ينتسبون إلى شيبة بن عثمان بن طلحة.
وفي عصور الإسلام، كان الخلفاء والأمراء والسلاطين يولون الحرمين اهتماما بالغا، حتى أن صلاح الدين الأيوبي يعتبر أول من لقب بـ خادم الحرمين الشريفين، وورد هذا اللقب في كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لابن شداد.
وفي عصر المماليك كان للسلاطين جهود طيبة في خدمة الحرمين، يقول د. محمد عقل: ” دأب سلاطين المماليك على إظهار تمسكهم بالإسلام والذب عنه، واعتنوا كثيراً بالأماكن المقدسة في الحجاز والقدس، ولقب كل واحد منهم نفسه بخادم الحرمين الشريفين، فقد ذكر ابن بطوطة في كتابه تحفة النظار في غرائب الأمصار أنه زار مصر سنة 725هـ/1324م وهو في طريقه للحج وأشاد بالسلطان المملوكي بقوله: وكان سلطان مصر على عهد دخولي إليها الملك الناصر أبو الفتح محمد بن المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي…وللملك الناصر السيرة الكريمة والفضائل العظيمة، وكفاه شرفاً انتماؤه لخدمة الحرمين الشريفين، وما كان يفعله كل سنة من أفعال البر التي تعين الحجاج من الجمال التي تحمل الزاد والماء للمنقطعين والضعفاء، وتحمل من تأخر أو ضعف عن المشي في الدربين المصري والشامي”.
وأما الدولة العثمانية، فحرص سلاطينها منذ نشأتها على التعبير عن حبهم وتعظيمهم للحرمين، وبذلوا لأهله مكة الأموال والمساعدات عند التعرض للكوارث والنكبات، حتى قبل أن تصل جيوشهم إلى العالم الإسلامي، حيث كانوا يرسلون الصرة منذ زمن بايزيد الأول ثم مراد الثاني ثم محمد الفاتح وغيرهم، وأوقف السلاطين من بعدهم على الحرمين الأوقاف العظيمة، ولقب كذلك السلطان سليم الأول بخادم الحرمين الشريفين.
وبعد أن تصدى العثمانيون لمحاولات برتغالية لاحتلال الحرمين في القرن السادس عشر الميلادي، اتجهت أنظارهم إلى الحجاز، وصارت لهم الوصاية على أرض الحرمين، وحرص العثمانيون على الصبغة الاستقلالية لهذه البلاد، وكلفوا ولاة مصر بتحمل نفقات أهل الحجاز، وازداد نظام الأشراف قوة ونفوذا في عهد الدولة العثمانية.
وبعد قيام الدولة السعودية وحتى اليوم، يولي ملوكها الحرمين عناية خاصة، فالجهود الجبارة التي تبذلها المملكة في رعاية الحرمين يشهد لها الداني والقاصي، وهكذا ظلت الوصاية السعودية على الحرمين بلا منازع، بل هو شيء تأصل في حس المسلمين قديما وحديثا.
غير أن إيران قد جددت دعوتها مؤخرا لتدويل إدارة الحرمين وخروجها عن الوصاية السعودية، مستغلين حادث تدافع منى، والتشهير بالقيادة السعودية بأنها عاجزة عن إدارة الحرمين.
رئيس مجلس الشورى الايراني (علي لاريجاني) نادى بضرورة “تقييم كيفية إدارة مراسم موسم الحج من قبل كافة الدول الإسلامية ومنظمة التعاون الإسلامي وبرلمانات الدول الإسلامية”.
ونقلت وكالة تسنيم الإيرانية عن محمود الهاشمي الشاهرودي نائب رئيس مجلس خبراء القيادة، مطالبته بدخول الحرمين الشريفين تحت إدارة إسلامية غير السعودية، زاعما أن المملكة عجزت عن إدارتها، ولم ينس أن يتقيأ شيئا من طائفيته تجاه السعودية متهما إياها بنشر الفكر الوهابي التكفيري بحسب زعمه.
كما قال آية الله إمامي كاشاني في خطبة صلاة الجمعة في طهران “اقترح على البلدان الإسلامية أن تلجأ إلى منظمة التعاون الإسلامي لتحديد مصير الحج لأن الحج ليس حكرا على النظام السعودي بل هو متعلق بجميع الدول الإسلامية”.
ومن جانبه اقترح عضو اللجنة الاجتماعية في مجلس الشورى الإسلامي، محمد إسماعيل سعيدي، إدارة الحرمين الشريفين من قبل منظمة التعاون الإسلامي أو مجموعة من الدول الإسلامية.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تطالب فيها إيران بتدويل إدارة الحرمين، فقد حدث الأمر ذاته في عهد الخميني في الثمانينيات إبان الحرب العراقية الإيرانية، عندما ساندت السعودية العراق بقوة، ما عرض المملكة لهجوم إيراني لاذع، وانطلقت دعوات تدويل الحرمين.
وكما ذكرت في مقالتي السابقة عن حادث تدافع منى، نادى (محمد جواد لاريجاني) عندما وضع نظرية “أم القرى” بتدويل الحرمين، وضرورة خروجهما عن السيطرة السعودية، وأن تدار عن طريق لجان دولية يكون لإيران فيها نصيب أكبر.
إذا غضضنا الطرف عن الوقائع التي تشير بأصابع الاتهام لإيران بالضلوع في الحدث، فإننا لا ينبغي أن نناقش رد الفعل الإيراني بمعزل عن عاصفة الحزم التي تقودها السعودية ضد الحوثيين أذناب إيران في اليمن.
لقد وظفت إيران هذا الحادث وأثارت زوبعات التدويل، في وقت يتعثر فيه المشروع الإيراني بعد أن أوقفته السعودية وحلفاؤها في محطة اليمن الهامة بالنسبة لإيران، والتي ما إن تسيطر على اليمن حتى يسهل عليها الانطلاق إلى الحدود الخليجية المتاخمة.
بعض النخب الفكرية والثقافية أيضا في الوطن العربي قد أطلقوا هذه الدعوة، وبدافع العداء لما يطلقون عليه الوهابية في السعودية، واعتبارها مرادفا للإرهاب والتطرف.
في سبتمبر 2007م، كتب الأستاذ ممدوح إسماعيل مقالة على صحيفة المصريون القاهرية، أوضح فيها أنه اطلع على مقالة لـ د رفعت سيد أحمد مؤسس ومدير مركز يافا للدراسات، يهاجم فيها المملكة، ويدعو فيها إلى تدويل إدارة الحرمين.
ثمة بُعد آخر للدعوة الإيرانية لتدويل الحرمين، وهو ما ذكره د. فراس الزوبعي، حيث أكد أن هذه الدعوة “تتعلق بمكانة المملكة العربية السعودية الدينية التي تكتسبها من وجود الحرمين داخل أراضيها، إضافة للمكانة السياسية المتميزة التي تتمتع بها بين دول العالم، فمكانتها الدينية تتيح لها القدرة على التأثير على أكثر من مليار ونصف مليار مسلم في العالم، أي أنها قادرة على التأثير على 23% من سكان العالم، وهذا يخيف إيران”.
تدويل الحرمين فكرة كارثية، من شأنها أن تنقل الصراع الأيديولوجي في العالم الإسلامي إلى أرض الحرمين الشريفين، وتجعلها عرضة لتسلل الأفكار والسلوكيات الطائفية، وزرع جيوب لإيران وغيرها في الدولة السعودية.
بينما الإدارة السعودية الدائمة للحرمين تحقق الاستقرار والانضباط في الزيارات والمشاعر والنسك، وهو الأمر الذي يبين براعة المملكة في إدارة الحرمين رغم وفود الناس من كل مشرب ومذهب.
تدويل الحرمين، يعني نزع القيادة الدينية للعالم السني عن السعودية، ما يضعف من ترابط السنة وهو عين المراد لدى الصفويين.
تدويل الحرمين خطوة على طريق تحقيق الهدف الأكبر لإيران في السيطرة على السعودية، وهو ما صرح به العديد من القيادات الدينية والسياسية في إيران.
في كتابه “الإسلام على ضوء التشيع”، قال حسين الخراساني أحد رموز الجمهورية الإيرانية: “إن كل شيعي على وجه الأرض يتمنى فتح وتحرير مكة والمدينة وإزالة الحكم الوهابي النجس عنها”.
وفي احتفال رسمي بالثورة الخمينية أقيم في الأحواز بتاريخ 17 مارس 1979م، ألقى الدكتور محمد مهدي صادقي، خطبة جاء فيها:
“وبعدما قمنا وثبتنا على أقدامنا، ينتقل المجاهدون المسلمون إلى القدس وإلى مكة المكرمة وإلى أفغانستان”.
وأضاف مبينا حيثيات استهداف مكة: “أصرح يا إخوان المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أن مكة المكرمة حرم الله الآمن يحتلها شرذمة أشد من اليهود”.
السعودية استجابت لتوصيات منظمة المؤتمر الإسلامي باستقبال ألف حاج من كل مليون نسمة من كل دولة، إلا أن إيران وعمالها في العراق وغيرها، يفتعلون الأزمات من أجل بناء وعي جمعي بين المسلمين بعدم مقدرة المملكة على إدارة الحرمين، وبالتالي ينطلقون إلى المطالبة بتدويل إدارتهما.
وعندما رفضت السعودية سبعة آلاف حاج عراقي إضافي عام 2006م، حاولت حكومة إبراهيم الجعفري تسييس القضية متهمة المملكة بالتعامل على أساس طائفي، وهذه المرة (بعد حادث منى) يطلق نوري المالكي الذي يتحرك بتوجيهات الولي الفقيه دعوته لوضع شؤون الحج تحت تخطيط وإدارة منظمة التعاون الإسلامي.
على الدعاة والمصلحين والنخب والقيادات الدينية والثقافية والسياسية وقادة الرأي الشرفاء في العالم الإسلامي، التصدي لهذه الدعوة بدعوة أخرى مضادة، ونشر الوعي ببطلان هذه الدعوة وكارثيتها.
لا نريد أن نستيقظ يوما ونجد أحد عمائم قم يؤم المصلين في الحرم بمصحف فاطمة المزعوم.
ولا نريد أن نسمع أورادهم التي يلعنون فيها أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة تتردد في الحرمين.
ولا أن يرتقي منبرهما من يطعن في عرض أم المؤمنين عائشة.
السعودية مستهدفة اليوم كأشد ما يكون الاستهداف، بمعزل عن موقفنا الرافض لبعض سياسات المملكة، فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.