الشدّة المستنصرية المعاصرة

يذكر المؤرخون أن امرأة من القاهرة في زمن الخليفة الفاطمي المستنصر حين جفت مياه النيل، أخذت عقدًا لها قيمته ألف دينار، واشترت به جِوال دقيق، فأعطته من يحميها من اللصوص، فلما وصلت إلى دارها أخذته منهم، فتكاثر عليه الناس وانتهبوه، فأخذت هي أيضا مع الناس ملء كفيها، ثم عجنته وخبزته فصار قُرصة، فأخذتها إلى قصر الخليفة وهي تنادي بأعلى صوتها:

«يا أهل القاهرة، ادعوا لمولانا المستنصر الذي أسعد الله الناس بأيامه، وأعاد عليهم بركات حسن نظره، حتى حصلت على هذه القرصة بألف دينار».

إنه أحد المشاهد التاريخية المؤلمة، في حقبة يذهل لها العقل البشري، وهي ما عرف بالشدة المستنصرية في القرن الخامس الهجري، إذ انحسر منسوب النيل، وخربت المحاصيل، وجاع أهل مصر حتى مات ثلثهم، وبيعت الدور من أجل الحصول على الدقيق، وأكل الناس القطط والكلاب، والأشد بشاعة من ذلك أنه سجلت في هذه الحقبة حوادث عن أكل لحوم البشر.

من الطبيعي أن أستحضر هذه المحنة ونحن نعاين في عصر الإنترنت والصورة الحية، تلك المجاعة التي ضربت قطاع غزة المنكوب، والذي – مع طول أمد الدمار والقتل والحصار- لم يعد يسأل متى تنتهي الحرب؟، وإنما يسأل: متى أحصل على رغيف الخبز؟.

صدق أو لا تصدق، صارت أول عبارة يتواصل بها الناس في غزة: «هل أكلت شيئًا اليوم»، ففي البداية كانت الجماهير الغفيرة تقف بالساعات في طوابير للحصول على بعض المعلبات والأغذية التي تدخل عن طريق المساعدات الإغاثية، ويتزاحمون على التكيّات التي كانت توفر لهم بعض الطعام الذي يسد الرمق.

لكن مع طول أمد الحصار، ومع تعسّف الاحتلال وتآمره مع سادة البيت الأبيض، تم غلق جميع المعابر، واستبعاد كل المنظمات الإغاثية المعنية بتوزيع الطعام على سكان القطاع، واعتماد مؤسسة غزة المشبوهة التابعة لأمريكا كجهة وحيدة في توزيع المساعدات الهشة، وتركزها في نقاط محدودة في الجنوب، لدفع سكان الشمال إلى النزوح وإلا الموت جوعًا، وكانت الطامة الكبرى أن العدو الإسرائيلي الغاشم يطلق النار على من ينتظرون المساعدات، ما دفع الناس إلى المغامرة بحياتهم من أجل الحصول على كيس من الطحين.

لقد بلغ الجوع من أهل غزة مبلغا غير مسبوق، أقصى أمانيهم الحصول على كيس من الطحين لإعداد الخبز، الخبز وحده، فقد نسي الناس شكل اللحم والخضراوات والفاكهة.

تذكرت الشدة المستنصرية لتشابه بعض الوقائع والأحداث في غزة التي ضربتها المجاعة، فالناس يتساقطون من الجوع قتلى، وأكلوا ورق الشجر، ولم يعد هناك طحين إلا الشيء النادر، وإن وُجد بيع بأسعار خيالية لا يستطيعها عامة الشعب.

الصحفي الفلسطيني بشير أبو شعر، عرض الكاميرا التي تعد رأس مال عمله، للبيع مقابل كيس من الطحين من أجل أن يطعم أطفاله.

أكل الناس في غزة أعلاف الدواب بطحنها وخبزها كبديل عن الطحين، لكنها سرعان ما نفدت.

إبان الشدة المستنصرية أكل الناس القطط والكلاب، لكن الوضع في غزة أشد وطأة، فالحيوانات ذاتها شاركت سكان غزة الجوع، وشاركتهم الموت جوعًا، إذ تنتشر في الطرقات جثث الحيوانات النافقة التي لم تجد ما يسد رمقها، وأما من بقي منها على قيد الحياة، فإنها تقتات على الحيوانات الميتة، والأدهى والأمر أنها تنهش جثامين متحللة لفلسطينيين استشهدوا نتيجة القصف الوحشي ولم يوار التراب أجسادهم كما أفاد شهود العيان.

الأطفال والرضع يموتون، وأثداء الأمهات فارغة من فرط الجوع، والبطون تظل خاوية بالثلاثة والأربعة أيام حتى أصاب الناس الوهن والأنيميا الحادة وتدهور الجهاز المناعي، حتى المياه ليست صالحة للشرب، ما ترتب عليه ظهور أمراض لا حصر لها.

غزة مقبلة على شدة مستنصرية معاصرة بحذافيرها، إن لم نتحرك لإنقاذ أهلها من الجوع والقتل والدمار.

املأوا الآفاق بأحاديثكم عن المجاعة في غزة، لا تكلوا ولا تملوا، لعلها تكتسب زخمًا يحرك الدماء المتجمدة في القرار العربي للضغط باتجاه إدخال المساعدات اللازمة لإنقاذ أهل غزة.

من العار أن ينخفض سقف طموحاتنا إلى إطعام الجوعى وإنقاذهم من المجاعة لا وقف الحرب، لكن ما باليد حيلة وقد صار الموت قصفًا أحب إليهم من الموت جوعًا، في ظل التآمر الدولي والخذلان العربي.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

لهذا يرفض الاحتلال حل الدولتين؟

مثّل الانتهاك الإسرائيلي للسيادة القطرية باستهداف قيادات حماس بالدوحة، محطة فارقة في مسار القضية الفلسطينية، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *