“العلل الاجتماعية لا يمكن أن تُعالج بالتغييرات التنظيمية، فكل المحاولات لهذه المعالجات سطحية، فهي إما أن تُرفض بسببها المنظمة كلها، وإما أن تقتصر على الاستبدال بنوع آخر من المنظمات”.
عندما يكون مصدر هذه العبارة المؤرخ والمفكر أرنولد توينبي فلابد وأن تكون جديرة بالاهتمام، لأن الرجل بدراساته وفلسفته العميقة ضارب في أطناب مسألة الحضارات وعلم الاجتماع وفلسفة التاريخ.
وعلى الفور، استحضرت معناها في النظر إلى العمل الإسلامي بتنظيماته المتعددة، فألفيتُ محاولاتها سطحية لم تمتد إلى الجذور، فتعرَّضتْ للرفض أحيانًا، وأتى كل فصيل كرِدِّة فعل لما يراه من قصور فصيلٍ سابق عليه، وأقول ذلك مع الإقرار بالجهود الكبيرة التي قامت بها كثير من تلك التنظيمات الإسلامية في خدمة الأمة، من محاولات البعث الإسلامي وتصحيح المفاهيم العقدية والسلوكيات والأخلاقيات، وإحياء العمل الخدمي، والتصدي للغزو الفكري ونحوه..
لم تكن نشأة الإخوان المسلمين هي بداية محاولات الإصلاح، فكانت هناك مدرسة إصلاحية للعالم السوري الذي استوطن مصر “محمد رشيد رضا”، كانت ميراثًا لمدرسة محمد عبده، إلا أنه ابتعد كثيرًا عن النزعة الاعتزالية للأخير، وأنشأ مجلة المنار التي طرح فيها رؤيته الإصلاحية، والتي أعتزمُ الكتابة فيها لاحقًا.
كانت أفكار رشيد رضا تتجه إلى إحداث تغيير مجتمعي شامل لا يقتصر على ناحية دون الأخرى، بعيدا عن الصدام مع القوى المهيمنة، وبعيدًا عن الاستغراق في ميدان بعينه واعتباره هو طريق الخلاص (التغيير السياسي على سبيل المثال)، وكانت أفكاره تصلح كمظلة منهجية فكرية لكل العاملين في الحقل الإسلامي، إلا أنها لم تجد من يقوم بها على الوجه الذي ينبغي.
أقرب الفصائل العاملة التي رأيتها الأبعد عن الصورة التنظيمية البحتة، وأكثرها اعتمادا على تكوين تلك المظلة الفكرية المنهجية كان تيار الصحوة الذي يحلو للبعض أن يسميه بالسرورية نسبة إلى أبرز المؤسسين والمنظرين لهذا التيار الشيخ محمد سرور زين العابدين رحمه الله.
هذا التيار أشبه بظاهرة اجتماعية، ورغم أن له منظرين صاغوا الإطار المنهجي إلا أنه توافق مع قناعات شرائح واسعة في شتى البقاع دون ارتباط بأطر العمل الجماعي، وأصبح فيما يبدو أن أفكار التيار تُلبّي احتياجات شرائح واسعة في المجتمعات الإسلامية المتعطشة إلى التغيير.
يختلف تيار الصحوة عن جماعة الإخوان المسلمين في كثير من مفردات الفكر، فرغم أنه خرج من رحم الإخوان باعتبار أن مؤسسه كان من إخوان سوريا، إلا أنه سعى لتفادي الأخطاء المنهجية والحركية التي وقع فيها الإخوان من عدة وجوه.
فالتيار كما أسلفتُ ليس تنظيمًا عالميًا كما هو حال الإخوان، وإنما عمل جماعي في بعض المجتمعات، وفي الغالبية العظمى لا يتعدى سوى سقف من الأفكار والتصورات تتحرك تحته شرائح واسعة.
كما يختلف التيار عن الإخوان من جهة اهتمامه بالتأصيل الشرعي والغراس العقدي والنأي عن البراجماتية التي عرفت بها جماعة الإخوان والتي برأيي فرضتها ظروف الواقع الأليم وسيطرة السلطة، وهو (أي التيار) أكثر اهتمامًا بالعلوم الشرعية، وانفتاحا على كتب جميع المفكرين والعلماء من أهل السنة دون الاقتصار على طائفة محددة.
ومن أبرز أوجه الاختلاف بين تيار الصحوة والإخوان، أنه لا يجعل صلب دعوته التغيير السياسي كما هو الحال في الإخوان، بل يراه جزءًا من الإصلاح، وهو ما يطابق الرؤية الإصلاحية لمحمد رشيد رضا، ولا يمانع التيار من دعم مرشحي الإسلاميين في الاستحقاقات الانتخابية، من باب درء المفاسد ما أمكن، حيث أن له موقفًا متحفظًا من دخول البرلمانات المؤسسة على قوانين وضعية لتصادمها مع الحاكمية.
كما يختلف عن الإخوان في النظرة إلى إيران، ففي حين يركز الإخوان على مواجهة المشروع الصهيوني باعتباره الأشد خطرًا ويتعامل بلين مع المشروع الإيراني بما يفرضه واجب الوقت بحسب فكر الإخوان، نرى تيار الصحوة رغم تركيزه على مواجهة المشروع الصهيوني أيضا إلا أنه لا يغفل خطر المشروع الإيراني الفارسي القومي المحمل على رأس طائفي، ولعل الشيخ محمد سرور كان من أوائل من كتبوا محذرين من الخطر الفارسي في كتابه (وجاء دور المجوس)، في الوقت الذي كان العرب يمجدون ثورة الخميني.
وأما من حيث مقارنته بالتيارات السلفية، فنرى أن الصحوة أكثر مرونة وانفتاحا من السلفية، يتمثل هذا الانفتاح في الاستقاء المعرفي والفكري من كل من ينضوي تحت لواء السنة، كما أنه يغوص في الاستفادة من الكتب الفكرية التي ينبذها السلفيون على غرار كتب سيد ومحمد قطب وأبي الأعلى المودودي ومالك بن نبي وغيرهم.
ومن أوجه الاختلاف بينهما أن التيارات السلفية ليس لها رؤية إصلاحية سوى تعليم الناس وانتظار لما يفرزه الواقع، فهي أشبه بدعوة علمية، في معظم ميادينها تأخذ صورة شيخ وطلبة علم، وفي الصورة التنظيمية منها تركز كذلك على الناحية العلمية مع التزكية، بينما نرى تيار الصحوة يعتمد الشمولية في العمل الإصلاحي، حيث تعليم الناس وتصحيح العقيدة، وربط السلوك والأخلاق بالاعتقاد وما يعرف بحيوية العقيدة الذي يتعدى الحشو المعلوماتي، وحيث الإصلاح السياسي سواء عن طريق التنظير أو إعداد الكوادر السياسية أو دعم الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية أو المحافِظة، وحيث العمل المؤسسي في مجال الاقتصاد والعمل الخدمي والعمل الإعلامي، ولعل من نافلة القول أن نُذكِر بأن مجلة البيان الصادرة عن المنتدى الإسلامي بلندن هي إحدى المؤسسات التابعة للتيار.
وفي الوقت الذي تتقوقع التيارات السلفية في المساجد وبين كتب التراث، نرى تيار الصحوة يتناول القضايا المعاصرة والتي تمس حاجات الناس بصورة مباشرة، ويتطرق في أنشطته إلى أحوال الدول والتجاذبات السياسية والمؤامرات الخارجية، والتوعية بخطر الأفكار الدخيلة الوافدة بشكل أكبر استفاضة وتفصيلًا ودقة من التناول السلفي، ومن المعلوم أن هذا التيار كان الجهة الوحيدة التي اعترضت من قلب السعودية على الاستعانة بالقوات الأمريكية بعد الغزو العراقي للكويت، ولا ننسى “مذكرة النصيحة” تلك الوثيقة التي تعتبر بداية البيانات السياسية المعارضة والإصلاحية في المملكة، والتي وقّع عليها رموز هذا التيار بمشاركة قوى وطنية أخرى للمطالبة بإصلاحات سياسية وتحوّل ديموقراطي، وكانت من أبرز أسباب استعداء النظام الحاكم.
يتميز تيار الصحوة بنبذ الأسماء والمسميات والبعد عن التعصب، والدعوة إلى وحدة الكلمة، ولا يعتمد على مبدأ الاستقطاب وحشر الناس في القفص التنظيمي، ويؤمن بالجهد التراكمي والتكاملي.
كما ينأى التيار عن لوثة التكفير والصدام المسلح مع الأنظمة، ويضع شعيرة الجهاد موضعها الصحيح في الشريعة بضوابطه الشرعية، ولا يترك الكلام فيه عرضة للاجتهادات الصبيانية الناشئة عن ضغط الواقع.
ربما كان هذا التيار أكثر التيارات عرضة للخصومة من داخل الصف الإسلامي وخارجه، فالإخوان يعتبرونه مُنشقا، والسلفيون يعتبرونه بدعيا مُضلّلا، والسلفية الجهادية تراه خانعًا، والليبرالية والعلمانية يرونه متشددًا، والتكفيريون يرونه مرتدًا. ربما أكون قد وفرت للقارئ أرضية ينطلق منها للتعرف على هذا التيار الذي كثر حوله اللغط، فالبيان هو إحدى مهامي التي حدّدتها لنفسي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.