كرة القدم سحر… من الذي يلقيه؟

لم يكن ما ألقاه سحرة فرعون أمام الجموع سوى حبال وعِصي، لكنهم سحروا أعين الناس، وأوهموهم بأنها حيات تسعى. وليست هذه المسماة بالساحرة المستديرة، سوى قطعة من الجلد منفوخة بالهواء، غير أن هناك من عمل على أن تصير أداة لتحريك مشاعر الشعوب، وتوجيه أفكارهم، وتضليل وعيهم، وإلهائهم عما تنصلح به حياتهم.

لا أقتنع بأن ثمة مؤامرة حول نشأة كرة القدم وأنها اختُرعت خصيصاً للنيل من شباب المسلمين، فإنها لم تنشأ في وطننا العربي والإسلامي أول ما نشأت، إضافة إلى أن الغرب لديه هوس كروي محموم، لا يقل عن هوس أمتنا بالساحرة المستديرة. لكن ما أنا على يقين منه أن هذه اللعبة التي هي في أصلها مجرد رياضة بدنية، قد تم توظيفها من قبل الحكومات لإمضاء سياساتها على أشلاء الوعي الجماهيري، بإلهاء الشعوب بتلك الرياضة.

حديثي هنا ليس عن شعوب الغرب الذين يتم تسطيح وعيهم بتأجيج وهج هذه اللعبة في النفوس لإشغال الجماهير عن تقييم القرارات السياسية ومعارضتها، فتلك الشعوب تعيش حالة جيدة من الاكتفاء والرخاء والعيش في ظل مناخ ديمقراطي إلى حد بعيد، لكن حديثي هنا عن علاقة شعوب أمتنا بالساحرة المستديرة، وكيف أثرت فيها، تلك الشعوب التي أنهكتها الأزمات، ويعيش معظم أبنائها في شظف من العيش، تتوالى عليهم النائبات والكوارث، من أزمات اقتصادية طاحنة، إلى سياسات قمعية تكمم الأفواه، إلى معاناة من فساد الطغمة الأكثر ثراءً التي تمالئ الأنظمة وتنتفع من بقائها، إلى غلاء الأسعار الذي يجعل المواطن يبحث عن أكثر من عمل ليواجه مشاق الحياة ومتطلباتها الصعبة.

سلسلة طويلة من الأزمات الطاحنة التي تعصف بالشعوب العربية، تجعل المرء في حيرة من أمر تلك الشعوب، التي تئن تحت وطأة هذه الأزمات، ثم يكون هذا حالها مع قطعة من الجلد المنفوخ بالهواء المضغوط، يركلها 24 لاعبا بأقدامهم لإيداعها في شبكة بين ثلاث قوائم. ليت الناس كلهم يمارسون هذه الرياضة، لكان أمراً نافعاً لأجسادهم ونفسياتهم وعقولهم، لكن هوس التشجيع بلغ منهم مبلغا عظيما، فما الذي يعنيه أن يتشاجر المشجعون ويتشابكوا بالأيدي جراء تشجيع فرق تتبارى؟ وما الذي يعنيه أن يطلق أحدهم زوجته ساعة غضب لأن فريقه خسر المباراة؟ وما الذي يعنيه أن يترك الشاب عمله وتكسّبه، أو دراسته ليتابع الفريق في كل أسفاره باعتباره من رابطة المشجعين؟ وما الذي يعنيه أن يصاب أحدهم بسكتة قلبية تفاعلا مع فريقه؟ وما الذي يعنيه أن تؤجَّل المواعيد المهمة، أو تُلغى بسبب المباريات؟ وما الذي يعنيه أن يناصب شعبٌ شعبا آخر العداء بسبب الكرة على حساب الدين واللغة والجغرافيا والتاريخ؟ ما الذي يعنيه أن يسهر شعب بأكمله رقصاً وطرباً وتجمهرا لأجل فوز فريقه، وأن يبيت شعب بأكمله في هم وكدر لهزيمة فريقه؟ وكيف لشعب مقهور يعيش معظمه على هامش الحياة، وفي ظل فقر مدقع وأحوال معيشية متردية، أن تكون مباريات الكرة أهم لديه من أسباب معاناته المعيشية؟ كيف حلّ لاعبو الكرة محلّ العلماء والمفكرين والمخترعين والمعلمين كقدوات للشباب، مع احترامي للاعبي الكرة قطعاً، لكن في الحقيقة أنهم مهما أنجزوا فهم لاعبو كرة، نفعهم لأنفسهم ولأنديتهم، بينما هذه النخب العلمية والثقافية والفكرية يتعدى نفعها لسائر الناس. إن كانت كرة القدم أصبحت جزءاً مهما من الاقتصاديات والاستثمارات، فخيرها للاعب والنادي والمستثمر، لكن ما الذي يعود على هذه الشعوب بالنفع؟ خاصة أن هذا التشجيع والاهتمام المحموم تخطى كونه أمراً ترفيهياً كشأن مشاهدة الأفلام والمسلسلات التي يستمتع بها المشاهد وقت عرضها، ثم تزول انفعالاته معها مع تتر النهاية.

ما الذي أوصل شعوبنا إلى هذه المنطقة الحرجة من قلة الوعي؟ أوصلها إلى ذلك الذين جعلوا الأولوية لبناء ملاعب الكرة لا بناء المصانع، وجعلوا راتب اللاعب بالملايين مقابل فتات يلقى به لأساتذة الجامعات والعلماء والمهندسين. أوصلها إلى ذلك الإنفاق الحكومي السخي على هذه الأنشطة، والإعلام الذي يسلط الضوء بشكل مروع على كرة القدم والمباريات والبطولات، فالمباراة الواحدة تأخذ حيزاً من الاهتمام من قبل أن تُجرى، لقاءات متنوعة مع الشخصيات التي تتعلق بها من مدربين ولاعبين ورؤساء أندية، وأصبحت هناك استديوهات للتحليل تأخذ المشاهد ساعة أو ساعتين قبلها، ومثلها بعد المباراة، وأكثر القضايا التي تسلط عليها الأضواء هي الأنشطة الكروية، بينما لا تجد أي اهتمام يذكر بأولئك الذي يأخذون على عاتقهم نهضة بلادهم، وينتفع بهم المجتمع بأسره، هم يعملون في صمت ولا تبلغ شهرتهم لدى الناس معشار ما تبلغه شهرة لاعب الكرة.

أوصلها إلى ذلك، الذين فشلوا في إدارة البلاد، فيغطون على هذا الفشل بتحويل انتباه الرأي العام إلى الاهتمام الزائد المبالغ فيه بكرة القدم ومبارياتها وبطولاتها، ومن البلاهة والإمعان في الحماقة، أن أي إنجاز كروي لفريق بلد ما، يكون من أبرز ما ينسب إلى زعيمها، ولو كان أفشل الفاشلين، فيكفي أن البلاد حصلت على بطولة قارية في عهده، حتى يكون هو الزعيم الملهم الذي أدخل الفرحة إلى قلوب الملايين.

هذا الاهتمام المغرض بالكرة من قبل الحكومات، غيّر قيمة الإنجازات لدى الشعوب، فالفوز ببطولة لكرة القدم يترتب عليه احتفاء غير عادي، وتغدو البلاد ساحة احتفالات يخيل للرائي، أن بلادنا تحررت من الاحتلال، فينقدح في الأذهان خاصة لدى الناشئة أن هذا هو الإنجاز والنصر الذي ينبغي تحقيقه، لكن لو أن هناك اختراعا تقدم به عبقري مثلا، أو مشروعا للتنمية قدمه أحد المختصين ينقل البلاد نقلة بعيدة، لن يُقابل بجزء من هذا الاهتمام والاحتفاء. شعوب نزلت إلى درك غياب الوعي بهذه الصورة، كيف لها أن تسأل عن حق، أو تنظر في ما يراد بها من تصدير الأزمات، فالحكومات تكتفي بإلهاء الشعب بالساحرة المستديرة، وتنفخ في هذه النار لئلا تخبو، ثم تمرر سياساتها العقيمة والناس نيام، لقد حكى لي بعض الأصدقاء من دول عربية، أن حكوماتهم كلما أرادت أن تزيد من الأسعار فعلت ذلك وقت المباريات، وهذا من المضحكات المبكيات، والأنكى أن الجماهير صارت على دراية باللعبة وتتقبلها، فالمباراة هي الأهم، هي مسألة حياة أو موت.

لقد باتت أحلام الناشئة لا تجاوز أن يكونوا لاعبي كرة، يركلون بأقدامهم، ويقبضون الملايين بأيديهم، ويُنفق على معسكرات الإعداد الخاصة بهم الملايين على نفقة الدولة، وينزلون في أفخم الفنادق، ويسافرون بالطائرات الخاصة، مكسب فاحش مقابل متعة ممارسة الهواية، فلماذا يحلم الشاب إذن بأن يكون أستاذا في الجامعة، أو معلما يربي الأجيال، أو مهندسا، أو كيميائيا، وأدى ذلك إلى عزوف الشاب عن الاهتمام بالتعليم والثقافة، فهو يعلم أنها مجرد شهادات ورقية يعلقها على جدران المنزل، وهو يدرك أنه لن يعمل في تخصصه، وإن وجد عملا لم يأخذ مقابلا له إلا الفتات، والنتيجة النهائية ظهور أنماط سلوكية متدنية من الرغبة في الكسب السريع الفاحش، من دون النظر في وسائلها، وكفر الشباب بالمبادئ والقيم التي ترنم بها الأولون التي تتعلق بالعمل والإنتاج ورفعة الوطن بالكد والتعب والعرق. إنها دعوة لكل مشجعي الكرة، أن يضعوا الاهتمام بها في موضعه الصحيح، مجرد أداة ترفيهية للتسلية، ليست الكرة راية انتماء، وليست قضية مصيرية، وليست أولى من الجوانب الحياتية الحقيقية في حياة الناس، وليست مَعْقَدًا للصداقة والعداوة، وليست سقفا لطموحات الشباب، أفيقوا يرحمكم الله، والله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

ماذا يعني سقوط الفاشر السودانية بيد قوات الدعم السريع؟

بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون أعمق، لكن الوجدان لا يتحمل كل هذه …

2 تعليقات

  1. بوركت جهودكم ومساعيكم …وجزاكم اللهعنا خير الجزاء .
    اسهمتم اسهاما جليا في وجود وعي إسلامي لدى شباب العرب والمسلمين ..
    كما لايفوتني التنويه لدوركم الفاعل في تفنيد كثير من الاباطيل المشوهة لتاريخ وحضارة أمتنا الاسلامية وتراثها.

  2. سيف الدين علي

    لقد اخرجتي ما في صدري صياغة وإتقان
    سلم لسانك أيتها الاردنية العزيزة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *