أحوال السائرين إلى رب العالمين

العبد منذ أن جاء إلى هذه الدنيا في سفر إلى ربه تعالى، كلما مر عليه يوم اقترب وقت وصوله إلى محطة الآخرة، يقول الحسن البصري: «يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك».

فأما الذين تنكّبوا عن الصراط السوي، فإنهم يسيرون إلى دار الشقاء تسوقهم الشياطين إلى هذا الطريق كما قال الله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [مريم: 83].قال ابن كثير: «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُغْوِيهِمْ إِغْوَاءً.

وأما السائرون إلى الله وجنّاته، فأولئك قال الله تبارك وتعالى عنهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32].

ثلاثتهم من أهل التوحيد والإيمان، ومآلهم إلى جنات النعيم، إلا أنهم متفاوتون في حمل الزاد، كما أنهم متفاوتون في سرعة المسير إلى رب العالمين، وها هو ابن القيم رحمه الله يُحلّق حول أقسام السائرين إلى ربهم فيقول:

«فالظالم لنفسه مقصر في الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل لا في قدره ولا في صفته، بل مفرط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده، ومع ذلك فهو متزود ما يتأَذى به في طريقه، ويجد غب أذاه إذا وصل المنزل بحسب ما تزود من ذلك المؤذي الضار».

والمقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلغه، ولم يشدَّ مع ذلك أحمال التجارة الرابحة، ولم يتزود ما يضره، فهو سالم غانم لكن فاتته المتاجر الرابحة وأنواع المكاسب الفاخرة. والسابق بالخيرات همه في تحصيل الأَرباح وشد أَحمال التجارات لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسراناً أن يدخر شيئاً مما بيده ولا يتجر به، فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأَرباح تجاراتهم».

ويلزم المسافر إلى ربه تعالى قيامه بحق العبودية التي جاء من أجلها إلى الحياة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فإنه لم يُخلق عبثًا {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].

ولا يحسبنّ العبد أن عمله كفيلٌ بإدخاله الجنة، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَةٍ).

فمهما أتى العبد من الأعمال الصالحة فإنه لا يستحق بها الجنة، إنما هي سبب لنيل رحمة الله تبارك وتعالى، وهذا هو سبيل جمع العلماء بين الحديث وبين الآية الكريمة {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، وهو ما يجليه ابن تيمية إذ يقول: «{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فَهَذِهِ بَاءُ السَّبَبِ أَيْ: بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمْ وَاَلَّذِي نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاءُ الْمُقَابَلَةِ كَمَا يُقَالُ: اشْتَرَيْت هَذَا بِهَذَا أَيْ: لَيْسَ الْعَمَلُ عِوَضًا وَثَمَنًا كَافِيًا فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عَفْوِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فَبِعَفْوِهِ يَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَبِرَحْمَتِهِ يَأْتِي بِالْخَيْرَاتِ وَبِفَضْلِهِ يُضَاعِفُ الْبَرَكَاتِ».

فلا يغتر العبد بعمله، فإنه لن يوفي حق الله تعالى، بل إن ملائكته المقربين الذين لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يقولون يوم القيامة عندما يوضع الميزان والصراط: (سبحانك ما عبدناك حق عبادتك).

فلن يؤدي المرء حق ربه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن رجلا يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرما في مرضاة الله تعالى لحقره يوم القيامة).

العمل سبب لنيل رحمة الله ومغفرته، ولو عاملنا سبحانه بعدله دون رحمته لهلكنا جميعًا، فقد آتانا من النعم ما لا نستطيعه إحصاءً وعدًّا، فعلى السائر إلى الله تعالى أن يجتهد في طاعة ربه وهو يرجو رحمته ويخاف عذابه، يثق في ربه لا في عمله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

حاجة العقل إلى الوحي

لقد أعلى الإسلام من قيمة العقل، وأولاه عناية بالغة، فجعله مناط التكليف، وجاء الخطاب الإيماني …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *