هكذا كان غير المسلمين جزءًا من الجسد الإسلامي

لا شك أن هوية أي أمة تحددها الثقافة الأم التي تعتنقها أغلبية هذه الأمة، ومنذ أن أشرقت شمس الرسالة على أرض العرب، أصبح الإسلام يمثل إلى اليوم هويتها المعبرة عن ثقافتها، بعد أن صبغ فيها أوجه الحياة من تصورات وعادات وتقاليد وفنون وعلوم ومعايير رفض وقبول ونحو ذلك.

ومع كل حديث عن الفكرة الإسلامية أو الحكم الإسلامي أو الحضارة الإسلامية، تبزغ إشكالية معاصرة مستحدثة، يطرحها تغريبيون وتنويريون وعلمانيون، وهي وضعية غير المسلمين في هذا السياق، فيطنطنون حول استحالة استيعاب هذه الأقليات في جسد إسلامي محكوم بالأطر الإسلامية، ويعدون ذلك استبدادا وطائفية، ومن ثم يدّعون بأن العلمانية هي المسار الصحيح لدولة جامعة لكل الأطياف.

في البداية أشير إلى أن هذه السطور لا تتضمن الرد عن طريق سرد الأدلة على أن تشريعات الإسلام كفلت إدماج غير المسلمين من رعايا الدولة في الجسد الإسلامي ومسار الحضارة الإسلامية، ولا الحديث عن كون الإسلام قد أرسى حقوق الرعايا من غير المسلمين فيما يعرف اليوم بحقوق المواطنة، كما جاء في وثيقة المدينة التي نظمت شؤون الحياة بين المسلمين واليهود في المدينة ببيان الواجبات والحقوق.

إننا في هذا المقام، نتناول النظرة الموضوعية التي يلتحم بها غير المسلمين في الجسد الإسلامي، أو بالأحرى تتم إعادة التحامهم بهذا الجسد وبالثقافة والحضارة الإسلاميتين، فقد كان هذا هو الأصل الذي طرأ عليه التغيير.

حدثت ثغرة في هذا الجانب إبان الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)م، عندما استطاع نابليون بونابرت استمالة بعض الأقباط، وحاربوا إلى جانبه بقيادة المعلم يعقوب – أو الجنرال يعقوب حنا- ضد بني وطنهم، وهذه الفئة لعنتها وتبرأت منها الكنيسة القبطية وسائر أقباط مصر، إلا أنها تركت بذرة للاستقلال عن المحيط الإسلامي العربي واستبدال النموذج الغربي به.

تناثرت هذه النزعات لدى الأقليات غير المسلمة في الوطن العربي، لتضاف إلى التيار التغريبي الذي ينتمي إلى الإسلام، والذي توجّه أصحابه صوب الغرب قلبًا وقالبًا، فشكل الفريقان من المسلمين وغير المسلمين، فكرًا ينتزع بلادنا من المرجعية الإسلامية.

يقول المفكر الإسلامي الراحل محمد عمارة، وهو أبرز من تناولوا هذه القضية: “إذا كان إسلام العقائد والعبادات خاصًا بالأغلبية المسلمة من أمتنا، فإن إسلام الثقافة والقانون والقيم والحضارة هو صبغة جامعة للأمة كلها على اختلاف مللها وشرائعها”.

وعلى ذلك فإن الإسلام يمثل هوية الأمة العربية بأسرها، المسلمين وغير المسلمين، فالمسلمون يتمثلون هذه الهوية تدينًا وتعبدًا، وغير المسلمين يتمثلون هذه الهوية من خلال البعد الحضاري. وعبر المسار الطويل للحضارة الإسلامية، كان غير المسلمين داخل الأمة جزءًا منها، ولهم إسهاماتهم في هذا التطور الحضاري.

هذه النظرة تجاه الأقليات غير المسلمة في المجتمع المسلم، قد لامست قناعات بعض القوميين كذلك – بمنظورهم القومي قطعًا- وينقل الدكتور عمارة في كتاب مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، عن بعض القوميين قولهم “إنه لا يوجد عربي غير مسلم، فالإسلام هو تاريخنا وهو بطولاتنا وهو لغتنا وفلسفتنا ونظرتنا إلى الكون، إنه الثقافة القومية الموحدة للعرب على اختلاف أديانهم”.

انتماء غير المسلمين إلى الجسد الإسلامي بالمفهوم الحضاري، يعزز حقيقة كون هذه الأقليات جزءًا من النسيج المجتمعي ومن أبناء الأرض التي يشترك الجميع في الانتماء إليها والتنعم بخيراتها، وأي محاولة للاستقلال عن هذا الجسد، إنما تمت تحت تأثير المد التغريبي.

وننبه هنا إلى أن أي قانون في الدول التي توصف بالرقي والمدنية يكون نابعا من ثقافة الشعب الأم، ففي أمريكا يمنع الدستور أن يتولى الرئاسة شيوعي، ويمنع قيام حزب سياسي على أساس اشتراكي لأن المرجعية النهائية والهوية الثقافية للغالبية من الشعب هي الرأسمالية الليبرالية.

غير أن الإسلام بتشريعاته ربانية المصدر، يختلف عن النظم الأخرى البشرية، فقد تميزت قِيَمه بالثبات، ومن ثم تضمَّن كفالة الحريات لغير المسلمين، وإقامة العدل بينهم، وعدم التفرقة أمام القضاء وقوانين الدولة بين المسلمين وغير المسلمين.

ربما كانت هذه الكلمات يغلب عليها الطابع التنظيري، حيث إن الأمة التي تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها غارقة في الأزمات التي تبعدها عن وضع تصورات عودة النظام الإسلامي، لكن تصحيح المفاهيم والتصورات أمر مطلوب، وما تراه الأمة لا يناسب عرضه أحوال اليوم سوف تحتاجه في الغد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

حاجة العقل إلى الوحي

لقد أعلى الإسلام من قيمة العقل، وأولاه عناية بالغة، فجعله مناط التكليف، وجاء الخطاب الإيماني …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *