في هذا العصر الذي ازدادت فيه مساحات الاختلاف والتعارض، كثرت الحاجة إلى الاهتمام بفقه المصالح والمفاسد، وليس ذلك مدخلا للتساهل في تطبيق الأحكام كما ينظر إليه بعض أهل الغلو، فالتشريع الإسلامي قام على تحقيق المصلحة الخالصة أو الراجحة وتجنب المفسدة.
ولقد كان الاهتمام بفقه المصالح والمفاسد محل عناية واهتمام كثير من العلماء، كان من أبرزهم شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي يعد هذا المجال جزءًا أساسًا في شخصيته الإصلاحية، فكثيرا ما أصّل لهذا الفقه وتناول تطبيقاته كما دلت عليها مواقفه وسيرته.
وتكمن أهمية إبراز هذا الجانب في أن الأمة بصفة عامة وكثير من العلماء بصفة خاصة يتخبطون في هذا الباب، والذي تتفرع عنه قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان من الضروري بيان الضوابط التي كان يراها شيخ الإسلام لهذه الشعيرة في ضوء مراعاة المصالح والمفاسد ومقاصد الشريعة التي يدور حولها الدين كله، وفيه كذلك رد على اتهام شيخ الإسلام بأنه صاحب منهج هدّام.
ومن أقواله الدالة على مراعاته لهذا الجانب قوله في مجموع الفتاوى:
“وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات. ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع “.
وقوله أيضا: ” الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما”.
ومما يدل على اهتمامه بهذا الجانب جهاده تحت راية نظام سياسي يختلف معه صيانة للدولة من الأخطار الخارجية، وعلق الدكتور محمد عمارة على ذلك بقوله في تقديمه لكتاب (ابن تيمية والآخر): “كان شديد البصر والبصيرة بالمخاطر الخارجية التي تحدق بحضارة الإسلام وديار الإسلام، وفي هذا الميدان كان شديد الوعي بفقه الأولويات حتى لقد حمل السلاح وحارب الصليبيين والتتار تحت قيادة النظم السياسية التي مات في سجونها، فضرب لنا مثلا في الوعي الحضاري بفقه الأولويات لا زلنا في حاجة إلى فقهه حتى هذه اللحظات”.
ونرى اهتمامه بهذا الجانب ينعكس على تقديره المصلحة والمفسدة في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك ما ذكره عنه تلميذه ابن القيم في كتاب إعلام الموقعين حيث قال: “وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدعهم”.
كما يظهر اهتمامه بذلك الجانب في فتواه ببقاء من تولى عن حاكم ظالم بهدف تخفيف الظلم كما يظهر في مجموع الفتاوى حيث يقول:
لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم ؛ ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها. ودفع أكثره باحتمال أيسره: كان ذلك حسنا مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدا. وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالا فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن لا يظلم ودفعه ذلك لو أمكن: كان محسنا ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا”.
لكن ينبغي العلم، أن تقدير المصالح والمفاسد لا يكون بالأهواء، ولكن بما يوافق الشريعة، فإذا جاء النص بترجيح مصلحة وجب العمل بها، أما الاجتهاد فإنما يكون حيث لم يرد نص يغلّب مصلحة ما، وإلا كان عبثا بالشريعة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.