تُعد أزمة الفهم أصلا ترجع إليه معظم الأمراض التي أصابت الأمة، وإذا نظرنا إلى منظومة العقائد والتصورات، سنجد أنها أظهر المجالات التي يتجلى فيها سوء الفهم.
وفرعٌ عنه، غياب الفهم الصحيح للعلاقة بين العقيدة والسلوك، فكثير من الناس ينظرون إلى العقيدة على أنها مجموعة من التصورات النظرية، منفصلة عن العمل والسلوك، ما أدى إلى انحرافات في تطبيق المنظومة القيمية، بحجة أنها لا تمس العقيدة..
هذه النظرة المغلوطة تنسفها نصوص الوحيين، فالمتأمل في آيات القرآن يدرك مدى الارتباط بين العقيدة والسلوك في الخطاب الدعوي الذي تبناه المرسلون، يتجلى ذلك في الدمج بين الدعوة إلى تصحيح الاعتقاد وتصحيح السلوكيات معًا.
فتضمنت دعوة شعيب عليه السلام على سبيل المثال، الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، إضافة إلى الدعوة لنبذ الخلل السلوكي، وهو الغش في الميزان والمكيال، قال تعالى: { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ }.
هذا الدمج هو منهج الأنبياء ليبقى هذا الارتباط الأبدي بين استقامة القلب على العقيدة السليمة، واستقامة الجوارح بحسن السلوك.
كما يظهر هذا الارتباط في ترتيب العذاب الأخروي على الخلل العقائدي والسلوكي معًا، ففي القرآن: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}.
فأخبر أن أهل النار يُعاقبون ليس فقط على كفرهم، بل على خلل في السلوكيات أيضا، مِن ترك الصلاة والبخل الذي يجسده عدم الإنفاق على المساكين.
وقد فهم أوائل الأمة ذلك الارتباط بوضوح، وهنا يورد ابن رجب في “جامع العلوم والحكم”، حكاية عن الحسن البصري والفرزدق الشاعر، وكان الأخير قد ماتت زوجته، وقد أوصت بأن يصلي عليها الحسن، والذي سأل الفرزدق: “ماذا أعددت لهذا اليوم؟ فأجاب: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة، هنا قال الحسن: إِنَّ لِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شُرُوطًا، فَإِيَّاكَ وَقَذْفَ الْمُحْصَنَةِ.
وذلك أن الشعراء كثيرا ما يقعون في القذف، والشاهد هنا أن الحسن كان يتحدث عن أصل عقائدي وهو لا إله إلا الله التي تمثل لُب عقيدة التوحيد، ومع ذلك ربط بين قذف المحصنات وبين شروط لا إله إلا الله، فإن فعل لا يكون قائما بشروطها، وعِدته ناقصة كما قال ابن رجب.
كما يتجلى هذا الارتباط في قصة يوسف مع امرأة العزيز، فيقول الله تعالى عن يوسف بعدما راودته امرأة العزيز { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.
يتضح الارتباط هنا من جهة العلاقة بين السبب والأثر، فمن أخلص إيمانه لله، دفع الله عنه بذلك السوء والفحشاء والوقوع في أوحال الرذيلة.
العقيدة والسلوك خاضعان لحقيقة الإيمان، والذي هو “قول باللسان واعتقاد بالجَنان وعمل بالأركان”، فالسلوك والعمل جزء من ذلك الإيمان، كما دلّ الحديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان).
السلوك القويم ثمرة لأصل الإيمان في القلب، تظهر على جوارح العبد وأخلاقه وتعاملاته بين الناس، كما قال الحسن البصري: “ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل”.
وبالنظر إلى منظومة القيم والأخلاقيات التي أرساها الإسلام، نجد أنها تُخضع أفعال العباد لمبدأ الجزاء الأخروي الذي هو بدوره من صميم الاعتقاد، فهذا وجه آخر لهذا الارتباط بين العقيدة السلوك، عندما يلتزم العباد بتصحيح جوارحهم وأخلاقياتهم وسلوكياتهم، انطلاقا من إيمانهم الراسخ بأنه سبيل الفوز بالجنة، وأن الإعراض عنه تعريض النفس لعقاب الله، كما في الحديث (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا).
إدراك وفهم حقيقة هذا الارتباط، من شأنه إصلاح العلاقات بين الناس في المجتمع المسلم، عندما ينظر المرء إلى أفعاله على أنها جزء من منظومته العقدية، وتلك هي مقومات السلامة والسلام والأمن في المجتمع، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.