كلما لاح الوداع، وحزم ضيفنا الكريم أمتعته، وامتطى راحلته في رحلة الفراق المعهودة، خلَّف كالعادة قلوبًا محملة بالأسى، ودموعًا حبيسة المآقي وأخرى تجري على الخدين.
وما من محب لرمضان وعارف لقدره إلا ويشعر كأنه يتيم بهذا الرحيل المر، فسوقُ الخير قد انفض، ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر، وها هو الحسن البصري رحمه الله يقول: “إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون”.
ترى من الفائز فنهنئه ومن الخاسر فنعزيه، فاللهم اجبر كسر قلوبنا على فراق شهرنا.
شهر رمضان ترفق..
دموع المحبين تدفق..
قلوبهم من أثر الفراق تشقق..
عسى وقفة للوداع..
تطفئ من نار الشوق ما أحرق..
عسى ساعة توبة وإقلاع..
ترفو من الصيام كل ما تخرق..
عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق..
وعند الصباح يحمد القوم الثرى:
شهر تحبس فيه النفس على طاعة الله وعن معصية الله، لهو معلم التقوى، وما إن يقوم الإنسان بحق هذا الشهر وصيامه حتى ينال الجائزة الكبرى ألا وهي تقوى الله تعالى، والتي هي غاية الصيام والحكمة منه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [البقرة:183].
سيكون الحصاد بعد رمضان تقوى تظهر في اجتنابه المعاصي، فما التقوى إلا أن يجعل العبد بينه وبين الله وقاية تقيه غضبه وعقابه، ويعرفها طلق بن حبيب بقوله: (التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله) ، تلك التقوى التي ستضبط سلوكياته وتعاملاته مع الخالق والخلق، حينئذ سيحمد جدّه واجتهاده في رمضان، وعند الصباح يحمد القوم الثرى.
ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها:
اسمها ريطة بنت سعد، كانت تغزل طول يومها غزلًا قويًا محكما ثم تنقضه أنكاثًا، أي: تفسده بعد إحكامه، فقال تعالى: ((وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) [النحل:92].
إن الذي مكث شهر رمضان يغزل ثوب الإيمان، حتى إذا بدا بهاؤه وحسن تماسكه نقضه بعد انقضاء الشهر، لهو أشبه الناس بـ “ريطة بنت سعد”، كيف يضيع الإنسان جهده وكده وسعيه، ويهدم ذلك الصرح الذي بناه طوال هذا الشهر العظيم.
ترى هل ستجافي المساجد التي عمرتها بطاعة الله في رمضان.
هل ستشكوك صلاة الفجر التي حافظت عليها في رمضان.
هل سيستبد بك البخل وتمسك يدًا قد أطلقتها بالخير في رمضان.
هل ستعود إلى قطيعة رحمٍ اجتهدت أن تصلها في رمضان.
هل ستفر من الصحبة الصالحة التي كانت لك خير معين في رمضان.
هل تنطلق جوارحك من جديد إلى ما لا يرضي الله بعد أن حفظتها في رمضان.
المصرون على الهلاك:
يقول عنهم ابن رجب رحمه الله: (السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه من الصلاة والصيام فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام، وكثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان، فيطول عليه ويشق على نفسه مفارقتها لمألوفها، فهو يعد الأيام والليالي ليعود إلى المعصية، وهؤلاء مصرون على ما فعلوا وهم يعلمون، فهم هلكى، ومنهم من لا يصبر على المعاصي فهو يواقعها في رمضان).
فلا يكن همك بعد رمضان أن تعود لما حبست نفسك عنه في الشهر المبارك، فإن فعلت فاعلم أنك لم تصم، فإنك إن صمت بحق تحققت فيك التقوى التي تردعك، والله تعالى يقول: ((إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)) [المائدة:27]، فإن عدت إلى الزيغ بعد استقامتك في رمضان فارث نفسك ألا يكون الله قد تقبل منك.
رباني لا رمضاني:
(باع قوم جارية قبيل رمضان فلما حصلت عند المشتري قال لها هيئي لنا ما يصلح للصوم، فقالت لقد كنت قبلكم لقوم كل زمانهم رمضان).
إنها جارية ربانية يستوي عندها الزمان، فخالق الشهور واحد، وكذا كان القوم الذين باعوها، وهكذا ينبغي أن تكون أنت، تكون ربانيًا لا رمضانيًا، فرب رمضان هو رب شوال وباقي الشهور، تعبده وحده وتتوجه إليك بكيانك، وتقبل عليه بالطاعة وتتقي سخطه وعذابه وتتسابق في مرضاته.
فإن الله حي لا يموت:
لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفزع الصحابة وروعهم الخبر، قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لكي يسجل له التاريخ ذلك المشهد الخالد الذي قال فيه قولته الشهيرة: (من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت).
ثم قرأ قول الله تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) [آل عمران:144].
هكذا يؤكد الصديق رضي الله عنه على أن يكون تعلق الإنسان بالله تعالى الذي لا يفنى ولا يبيد، وإنما كان رسول الله ليؤدي مهمة جليلة مات بعدما أداها وهي تبليغ هذه الرسالة الخالدة، فحق عليه قول ربنا: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)) [الزمر:30].
ومن هذا المنطلق نهيب بك أن: لا يكن تعلقك برمضان، بقدر ما يكون تعلقك برب رمضان، إن كان رمضان يعينك على الطاعة ويشحذ همتك لها، فإن الذي يمدك بالعون في رمضان وغيره حي لا يموت، ونحن نقتبس من قول الصديق رضي الله عنه ما ننصح به كل مسلم: إن كان رمضان قد رحل وانقضى فإن الله حي لا يموت.
إلى من حصد الأشواك:
إلى كل من مر عليه رمضان من غير غنيمة، وأدرك أنه قد حرم، وندم على تفريطه في جنب الله، إلى هؤلاء نقول: لا تبك على اللبن المسكوب، فانفض عنك غبار اليأس، وأعد نفسك من اليوم لاستقبال رمضان القادم، كما كان يفعل أسلافك الصالحون، واجعل من سائر أيامك رمضان.
فإن كنت بكيت على تضييع الصيام في رمضان فلم تصم، أو صمتم ولكنك لم تحسن الصيام، فإن أمامك صيام الاثنين والخميس وثلاث من كل شهر، أتقن صيامها يجزيك الله بعطائه الخاص للصائمين.
وإن كنت قصرت في القيام وأهملت العشر الأواخر، فقم الليل وحافظ عليه واجعل لك من وقت النزول الإلهي مغنمًا ونصيبًا.
وإن تهاونت في التعامل مع كتاب الله، فما زالت الفرصة سانحة أمامك لكي تقبل على القرآن تلاوة وتدبرًا وحفظًا وعملًا به.
وادع الله بأن يبلغك رمضان وتكون فيه من المقبولين الفائزين، وقدم لذلك توبة نصوحًا لله رب العالمين، توبة تبدأ في ظلالها عهدًا جديدًا مع الله تعالى، ترفع معها شعار: ((وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)) [طه:84].
جزاك الله خيرا وبارك الله فيك وفي أهلك ومالك وعلمك وعملك 🌷
اللهم ووفقنا لصيام وقيام اعظم أيام #شهر_رمضان_المبارك التي فيها أفضل ليله في السنه وهي ليله القدر ووفقنا لقيامها ايمانا واحتسابا 🌷💖
ببركة رمضان
أسأل الله ان يجعلنا واياكم من المرحومين والمغفور لهم ومن عتقاء هذا الشهر الكريم.
ونسأل الله ان يعيده علينا وعليكم بخيره وبركته .
آمين.