«جئتم لتنقذونا من المماليك، وجاء المماليك لينقذونا من الأتراك، وجاء الأتراك ليحمونا من التتار، وجاء التتار ليخلصونا من الخليفة، وجاء الخليفة ليحمينا من الرومان، والرومان من الإغريق، والإغريق من الفرس».
هكذا تحدث الشيخ صابر، الأزهري الذي يجسد شخصيته في مسلسل «سره الباتع»، الشاعر هشام الجخ، ردا على قول الجنرال الفرنسي بأنهم جاءوا ليحرروا المصريين من ظلم المماليك.
في الحقيقة لم أتمالك نفسي لدى سماعي هذا المقطع المدجج بالمغالطات التاريخية، فقررت أن أكتب فيه، رغم أن مقالي السابق كان عن مضمون آخر للمسلسل نفسه.
وابتداءً أود أن أنبه في هذا المقام على أخطاء هذا التسلسل قبل أن أدلف إلى لب الموضوع، فقوله «جاء المماليك لينقذونا من الأتراك»، لا يستقيم تاريخيا فدولة المماليك قامت في أعقاب الدولة الأيوبية، واستمر حكم المماليك إلى عهد طومان باي، الذي كان آخر سلاطين المماليك عندما سقطت مصر والشام في قبضة السلطان العثماني سليم الأول في عامي 1516ـ 1517، واستبقى العثمانيون أمراء المماليك يديرون البلاد نيابة عنهم، فكيف خلّص المماليك مصر من الأتراك وقد أسقط الأتراك دولتهم؟!
وإن كان يقصد بالأتراك الجنس التركي، فهي أيضا مغالطة، لأن الأيوبيين – الذين خلفهم المماليك في الحكم – لم يكونوا من الجنس التركي، إضافة إلى أن الأيوبيين هم من استقدموا المماليك الذي كانوا عبيدا، وقاموا بتربيتهم وتعليمهم فصاروا عماد قوتهم. ثم هناك مغالطة تاريخية أخرى في قوله (جاء الأتراك ليحمونا من التتار)، فالعبارة توحي بأن التتار كان يحتلون مصر، وهذا لم يحدث، فالمماليك كانوا يحكمون مصر فترة هذا الاجتياح التتري، وتصدى لهم جند مصر والشام بقيادة سيف الدين قطز في معركة عين جالوت، وليس الأتراك هم من ردوا الزحف التتري، إلا إذا كان يصف المماليك بأنهم أتراك باعتبار جنسهم مع أن الظاهر غير ذلك. أما بيت القصيد الذي أنشد التعليق عليه، هو قوله (وجاء الخليفة ليحمينا من الرومان)، وبلا أدنى شك، لا يمكن أن يكون المعني بالخليفة هو شخص آخر غير الخليفة عمر بن الخطاب، فالفتح الإسلامي لمصر في عهد الرومان البيزنطيين تم في خلافة عمر. هذه العبارة المدسوسة في سياق هذا العمل الدرامي بالغة الخطورة، فهي تجعل الفتح الإسلامي العربي لمصر – الذي جاءت به البشارات النبوية – احتلالا، أسوة بصنيع الرومان والإغريق والفرس، كما فيها ادعاء بأن المسلمين لم يحرروا المصريين، وهذه مغالطة تاريخية جسيمة. كان المصريون يعيشون في ظل الحكم الروماني الجائر، الذي اضطهد الأقباط على أساس مذهبي، رغم أنهم من ملة واحدة، ولم تكن مصر سوى مخزن غلال لروما، وشعبها يعمل بالسخرة لصالح الرومان، ولم يكن من شيء في حياة المصريين إلا ويدفعون ضريبة عنه، وعانوا الأمرّين من الطبقية والحرمان من المشاركة في إدارة شؤون بلادهم.
خطاب الدعوة إلى الإسلام الذي تم توجيهه من المدينة المنورة، كان للشعب المصري، وليس لسلطة الاحتلال الروماني في مصر، التي تنوب عن هرقل ملك الروم، إذ أوفد النبي صلى الله عليه رسله إلى المقوقس في العاصمة الوطنية لمصر «ممفيس»، والمقوقس كان مصريا لا رومانيا.
الشعب المصري كان مرحبا بالفتح الإسلامي، الذي جاء لمواجهة الرومان المحتلين وليس لمواجهة المصريين، الذين كانوا متعطشين للخلاص من القهر والاستبداد الروماني. وقد أقر الأسقف يوحنا النقيوسي، رغم تحامله على الفتح، بأن كثيرا من المصريين اعتنقوا الإسلام قبل السيطرة على مصر نهائيا، وذلك في كتابه المعروف «تاريخ مصر والعالم القديم»، ويعد أقدم الروايات القبطية للفتح الإسلامي لمصر، لأن مؤلفه يوحنا النقيوسي عاش في القرن السابع الذي تم فيه الفتح. المستشرق البريطاني توماس أرنولد تحدث بدوره عن دخول كثير من الأقباط في الإسلام، وهذا يدل على أن المصريين نظروا إلى الفتح نظرة المحرر لهم من الظلم الروماني.
وذكر عثمان بن صالح في كتابه «فتوح مصر وأخبارها»، أن جماعة من رؤساء القبط أصلحوا الطريق وأقاموا الجسور والأسواق لتمكين جيش عمرو بن العاص، وأعانوه على قتال الروم.. وقد حرر الفتح الإسلامي شعب مصر من كل آثار الاحتلال الروماني الذي دام ستة قرون، وشارك المصريون لأول مرة في إدارة بلادهم، وتم تمكينهم من الوظائف التي كان يحتلها الرومان، ونشطت الصناعات والزراعات وأصبحت الإسكندرية أكبر الأسواق العالمية، ولم يبق من الضرائب سوى الخراج السنوي، ولم تكن الجزية سوى دينارين للقادرين، نظير الدفاع عن البلاد ضد أي مستعمر، وتأمين لحياته بعد أن يهرم ويفقد القدرة على التكسب، ولم تكن تؤخذ من المسنين. وأطلق المسلمون حرية الاعتقاد للأقباط، ولم تسجل حالة إكراه واحدة، وكفلوا لهم حرية المذاهب المسيحية، وتركوا لهم الصناعات والوظائف والزراعات، واكتفوا بإدارة البلاد والإشراف عليها، لذلك اندمج العرب والأقباط تحت راية واحدة، ودخل كثير منهم الإسلام، وإلى اليوم يعيش المسلمون والمسيحيون في مصر كنسيج واحد.
إذن، تحرير الخليفة للمصريين من الرومان حقيقة، والوجود الإسلامي في مصر لم يكن احتلالا. وأعجب من جرأة صناع هذا العمل الدرامي في تصوير هذه العلاقة بين الفتح الإسلامي والمصريين، إذ توحي عبارة الشيخ صابر بأن الخليفة عمر صنع كما صنع نابليون ذو الأطماع الاستعمارية في مصر، عندما ادعى أن الفرنسيين جاءوا لإنقاذ المصريين من ظلم المماليك.
وأعجب أكثر لأنهم اختاروا لقول هذه العبارة، شيخا أزهريا يمثل هذه المؤسسة العريقة، وأتحدى أن يأتوا من أفواه علماء الأزهر المعتبرين، أو كتبهم ما يصف الفتح الإسلامي لمصر بالاحتلال. صدقا لقد زاد العبث بالتاريخ في الدراما العربية، وصارت المسلسلات والأفلام مرتعا لبث أفكار خرجت من أجندات هنا وهناك، وأصبحت هذه الأعمال لا تخلو من دس أفكار دخيلة، أو إثارة فكرة يدور حولها الجدل، أو إحياء فتنة ماتت، فمتى تُلبي الدراما العربية الحاجات الحقيقية للشعوب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.