«سرّه الباتع»… دراما تحديث الخطاب الديني

عام 1958 نُشر للأديب المصري الراحل يوسف إدريس مجموعة قصصية بعنوان حادثة شرف، على الرغم من أنني لم أقرأ المجموعة كلها، إلا أن عنوانا لإحداها قد استوقفني لأقرأها هي تحديدا، كانت قصة بعنوان «سرّهُ الباتع».

في تلك القصة يبحث شاب عن سر أحد الأضرحة الموجودة في قرية في الريف المصري، يسمى صاحبه بالسلطان حامد، فيقوده البحث إلى حقبة الاحتلال الفرنسي لمصر بين عامي 1798-1801، ولعب حامد بطل القصة دورا مهما في مقاومة الغزو الفرنسي، وكان من السهل البحث عن ذلك المقاوم، لأن إحدى يديه بأربع أصابع فقط، كما أن على وجهه وشم عصفور، فحتى يحميه الأهالي، قام كل شاب من شباب القرية بقطع إصبع من يده، ورسم الوشم ذاته على وجهه، ليعجز الفرنسيون عن القبض على حامد. قصة تاريخية شيّقة من التي يحلو للكثيرين مطالعتها ـ وأنا منهم – لما تبرزه من روح النضال لشعوبنا ضد الغزاة.

بيد أن الدراما غالبا تفسد متعة التاريخ، خاصة عندما تكون تلك الدراما جزءا من إعلام يتبنى نظرية السلطة، أو النظرية السلطوية، ومصدرها فلسفة السلطة المطلقة للحاكم أو لحكومته، وتكون مهمة الإعلام فيها توطيد سياسات الحكومة والترويج لها، ويزداد تأثيرها قطعا إذا كان صناع العمل مؤدلجين، ينشرون في ثنايا العمل الدرامي أفكارهم ليستقيها المجتمع.

تحولت قصة يوسف إدريس إلى مسلسل يعرض حاليا في رمضان بالعنوان نفسه «سره الباتع»، وقد أصر صناع العمل على إثارة البلبلة بمناقشة قضية من قضايا الاعتقاد التي لا تصلح الدراما لكي تكون ميدانا لمناقشتها. في أحد مشاهد المسلسل الذي اشترك فيه لأول مرة هويس الشعر العربي الشاعر هشام الجخ ـ في ما أعتبره أنا شخصيا مجازفة منه بتاريخه وإنتاجه كشاعر- برزت قضية الحكم بإيمان أهل الكتاب وعدم كفرهم. لا يخفى على متابع للشأن المصري، أن تبني هذا المفهوم من قبل صناع العمل، ليس سوى رد على بعض أو كثير من علماء الأزهر، الذين بسطوا القول في تلك المسألة، وقالوا: إن كل أهل عقيدة يطلقون وصف الكفر على كل من خالفهم فيها، فالكفر بالشيء يقابله الإيمان به، وإن هذه الأحكام لا تنفي التعايش السلمي أو المواطنة، ولا تبيح دماء المخالف، وإن الاعتداء يُدفع ولو كان المعتدي مسلما، لا علاقة له بالعقيدة.

وأنا هنا لست بصدد مناقشة فقهية لتحرير المسألة، إنما أستنكر قيام هذا العمل بدور القضاء الشرعي، أو القيام بدور العلماء، في تبني قول يأباه كل أصحاب الملل، فلا يقول يهودي إن المسيحيين والمسلمين مؤمنون، ولا يقول المسيحي، إن اليهود والمسلمين مؤمنون، ولا يقول المسلم إن اليهود والمسيحيين مؤمنون، لكن هذا التوصيف لا يمنع التعايش والمجاورة والتعاون من أجل الصالح العام للمجتمع.
فلماذا تناقش مثل هذه المسائل التي تنال من عقيدة كل أصحاب الملل بلا استثناء؟ هل سلب الخصوصيات العقدية لكل أصحاب الملل هي السبيل إلى الوحدة الوطنية والتعايش بينهم؟ بالتأكيد لا، بل هذا يزرع الشقاق والفتن. كان الأولى بصناع العمل، التأكيد على التعايش بين المسلم والمسيحي في ظل المواطنة، وأن الأرض تسع الجميع طالما أنهم بعيدون عن العدوان والظلم، أو التأكيد على الحضارة الإسلامية، التي عاش في ظلها المسلم والمسيحي جنبا إلى جنب، كل يعرف ما له وما عليه. أما الخوض في مسائل عقدية تخص أصحاب الملل بدعوى تعزيز روح الوحدة الوطنية، فهذا عبث، ورغبة في حسم مسألة علمية يدور حولها الجدل، من خلال عمل درامي، يشاهده العالم والجاهل، المثقف والبسيط، واسع الإدراك وضيق الأفق. وإني لأتعجب من أهل الفن من هذا التجاوز، والتعدي على أهل الاختصاص، تجاوزوا كونهم صناع عمل ترفيهي، فأقحموا أنفسهم في قضايا ليس لهم الحديث عنها أو مناقشتها أمام الجماهير، على اعتبار أنها لا تقع في نطاق اختصاصهم. لكن الغرض كما هو واضح، إظهار علماء الأزهر ودعاته على أنهم متشددون متطرفون لا يقبلون بالآخر، يأتي ذلك في ظل تحديث الخطاب الديني، الذي أصبح سمة بارزة في النظام المصري الحالي، وهو تحديث يُخضع التصورات الإسلامية وأحكام الدين للإرادة السياسية التي تسعى للتماهي مع المجتمع الدولي، ولو على حساب التصور الإسلامي أو أحكامه وثوابته.
ذلك التحديث الذي يرفضه الأزهر، إيمانا منه بأن المنهج الإسلامي بصورته التي جاء بها، يحمل من الأحكام والتشريعات ما يبسط مظلة إنسانية جامعة ينطوي تحتها الناس على اختلاف شرائعهم، وأنه صالح لكل زمان ومكان، لا يحتاج إلى تبديله أو العبث فيه ليوافق الأهواء. تمنيت لو أن الأعمال الفنية اقتصرت على إرساء القيم الإنسانية العامة، وتعزيز المشتركات التي يتفق عليها الناس على اختلاف شرائعهم ومشاربهم، بدلا من إثارة الفتن والجدل، وبدلا من الخوض في مسائل قُتلت نقاشا بين أصحاب الاتجاهات المختلفة في الفضائيات ومواقع الإنترنت. التعايش السلمي والتسامح لا يتحقق بإذابة الفوارق والفواصل بين الملل والشرائع، بل هذا يستغله أهل التطرف والغلو من كل ملة، عندما يستشعرون الخطر على عقيدتهم، إنما يتحقق بالالتقاء على مشتركات إنسانية وعمل من أجل رفعة الأوطان، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

الشارع الأمريكي يؤثر على القرار السياسي… الوهم الأكبر

لو كان الوهم يُعَبّأ في قوارير لبيعها، حتما كنا سنقرأ على ملصقاتها عبارة: صنع في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *