كثيراً ما تكون المواجهة بالحقيقة مفزعة مُربكة، لا يتحملها الطرف الآخر، ما إن تشير إلى سوءته حتى يثور ويهاجمك، على الرغم من أنه على يقين بأنك لم تزد عن قول الحقيقة شيئا، ذلك تحديدا ما جسّده موقف إعلام النظام المصري من الانتقادات، التي تعرض لها النظام وجيشه من أطراف خليجية.
في الأسبوع المنصرم، كتبتُ مقالا عن مظاهر تخلّي السعودية عن سياسة الدعم غير المشروط لنظام السيسي، واستشهدت بتصريح وزير المالية السعودي، الذي أدلى به خلال فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، والذي يتضمن تغيير المملكة طريقة دعمها للحلفاء، وأنها ستكون مشروطة، إذ قال: «اعتدنا تقديم منح ومساعدات مباشرة دون شروط، ونحن نغير ذلك». كما تناولت سلسلة تغريدات للكاتب السعودي تركي الحمد، انتقد فيها النظام والجيش بمصر، وحمّلهما مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية بعد أن قارنها بالعهود السابقة. وفي السياق ذاته، غرّد خالد الدخيل الخبير في علم الاجتماع السياسي قائلا: «إن ما يحصل في مصر في السنوات الأخيرة، يعود في جذره الأول إلى أنها لم تغادر عباءة العسكر منذ 1952».
ثم وقفت قبل كتابة هذه السطور على مقال للكاتب المصري عبد الرزاق توفيق رئيس تحرير صحيفة «الجمهورية» الحكومية الموالية للنظام – تم نشره على موقع «القاهرة 24» الموصوف بأنه مقرب من الأجهزة السيادية بمصر- حمَل هذا المقال على الدول الخليجية، وشن هجوما عنيفا عليها، نتيجة هذه الانتقادات الموجهة إلى نظام مصر وجيشها. اللافت في المقال، أن الكاتب واجه الحقائق بالصياح والسباب. وتعبيرا عن الإفلاس في رد هذه الحقائق اتجه كاتبه إلى استدعاء حقبٍ تاريخية لدول الخليج قبل اكتشاف النفط، واتخذها مجالا للتعيير فيقول: «يجب على الحفاة العراة الذين ارتدوا أفخر الثياب مؤخرا، عدم التطاول على مصر، زينة وأم الدنيا بتاريخها ومستقبلها وحضارتها وانتصاراتها وأمجادها ورجالاتها ورموزها وشعبها العظيم». وصدق قول الشاعر:
لكل داءٍ دواءٌ يُستطبّ به …. إلا الحماقة أعيت من يداويها
هل كان يتصور الكاتب أن يمر هذا الكلام اللاذع مرور الكرام على شعوب الخليج، حتى إن مررته الحكومات؟ لقد وقع الكاتب في ذلك الخطأ الجسيم المعهود، الذي يُمارس عمدا وعن غير عمد، وهو اعتبار الهجوم على النظام هجوما على مصر، وكأن مصر تعني السيسي وجيشه، لا ذلك الشعب، ولا تلك الأرض بحضارتها وعراقتها، مع أن الشعب المصري ذاته هو من ينتقد النظام وسياساته، التي أفقرت الناس وجعلتهم يترحمون على أيام حسني مبارك. يواصل الكاتب هجومه قائلا: «ليس من حق اللئام والأنذال ومحدثي النعمة أن يتطاولوا على أسيادهم، فهم مجرد هواء وفراغ يتلاشى بمجرد هبوب عواصف بسيطة، ليس من حق دويلات عمرها لا يزيد على عمر أصغر أبنائي أن تتحدث عن مصر إلا بالأدب والاحترام».
لقد أعرض الكاتب عن حقيقة واضحة كشمس رابعة النهار، وهي أن من سماهم الحفاة العراة، سبقوا بلده صاحبة حضارة السبعة آلاف عام بمراحل في جودة التعليم والصحة والنظم الإدارية وغيرها، ولست هنا أقصد الإساءة لأشقائنا المصريين، فهم على مرّ التاريخ أصحاب البذل والإنجازات والتضحيات، لكنهم وقعوا ضحية لفساد سياسي ومالي وإداري أفقد بلادهم دورها الريادي. ثم يزأر الكاتب من أجل الهجوم على جيش بلاده الذي كال له المديح، ردا على تعرض الجيش المصري للاتهام بالمسؤولية عن تردي الأوضاع الاقتصادية، وكأن هذا الاتهام من وحي الخيال. لقد صار حديث العالم بأسره، أن الجيش المصري استولى على اقتصاد البلاد، ولم تصبح مهمته حماية الحدود والأمن القومي، وإنما صار مؤسسة اقتصادية ضخمة منفردة منعزلة عن الدولة داخل الدولة، وتعتبر أن أملاك وثروات القوات المسلحة هي كما قال أحد جنرالاتها «عرَق الجيش»، تعبيرا عن الملكية الخاصة لهذه الثروات بعيدا عن الشعب. وعندما يتولى الجيش المشروعات الاستثمارية الضخمة في البلاد، فمعناه ضعف الاستثمار في مصر، لأنه يقيم مشروعاته بالمجان، الأرض يأخذها بالمجان، والعمالة لديه بالمجان (الجنود)، فأي استثمار يمكن أن يقف أمامه؟ صار الجيش يبيع كل شيء، ابتداء من المعدات والأجهزة الطبية والوحدات السكنية وحتى بيع الخضروات والمواد التموينية، بل حتى صناعة السينما. لقد كان استيلاء الجيش على الاقتصاد هو الثمن الذي قبضه حتى يسكت عن سوء وفشل الإدارة، ويظل درعها الحامي ضد أي محاولات داخلية أو خارجية لإسقاطه.
ثار الكاتب وهاج وماج لانتقاد زعيم نظامه، الذي أدت سياساته إلى تردي الأحوال الاقتصادية بمصر، وكأن ما قيل بحق النظام أمر جديد، مع أن الشعب المصري يحمّل رئيسه تلك المسؤولية، ومواقع التواصل الاجتماعي تمتلئ بقفشات وفكاهات المصريين التي تثير الضحك والبكاء معا على سوء الأحوال المعيشية في عهد السيسي، فأين الجديد؟ ليستمع الكاتب إن شاء لنبض الشعب، بل لصرخاته: الدولار يكسر حاجز 30 جنيها، بما يترتب عليه من غلاء شبه يومي في الأسعار، حتى صار الحديث في مصر عن مجاعة آتية، وأصول البلاد تباع، والدين العام يتفاقم، والنظام لم يفعل شيئا سوى بناء القصور والجسور، فلماذا هذا العويل والصراخ. لقد حاول الكاتب التغطية على فشل رئيسه واستحقاقه لهذه الانتقادات، بأن ذكّر الخليجيين كالعادة بالإرهاب وأفضال السيسي على الأمة بقمعه، وهو في ذلك يلوّح بفزاعة التيار الإسلامي الذي كان وصوله إلى السلطة أبرز مخاوف هذه الدول. لقد نسي الكاتب وهو يتحدث بهذه العنجهية والفوقية، تسريبات «الرز الخليجي» التي أوضحت حالة الابتزاز والاستغلال التي يمارسها نظام بلاده على دول الخليج. وعلى الرغم من أن المقال تم حذفه من موقع الصحيفة القومية والموقع الآخر ذي الصلة بالأجهزة الأمنية، إلا أن ذلك لا يعبر عن كون المقال نتاج وجهة نظر فردية للكاتب، لأن من كتبه هو رئيس تحرير الصحيفة، وهي حكومية تعبر عن وجهة نظر النظام، ثم تم نشره على الموقع المقرب من الأمن، والحديث عن أمر شائك كهذا لا يمكن أن يكون قد سقط من عقل الكاتب، أنه قد يسبب أزمة دبلوماسية، لذلك أتجه إلى القول بأن الأجهزة السيادية كانت على علم بالمقال، الذي يحمل رسائل إلى الدول الخليجية، وعينة من الهجوم الذي يمكن أن تتعرض له دول الخليج على الصعيد الإعلامي، وتذكيرا بحاجة هذه الدول إلى مصر لضمان سلامة أمن الخليج، ثم تم حذفه ليبدو ظاهر الأمر أنه سقطة وزلة من الكاتب، تعبر عن وجهة نظره الشخصية.
وأؤكد هنا على ما أشرت إليه سابقا، هو أن الهجوم على نظام السيسي وجيشه، لا يحمل هجوما ضمنيا على الشعب المصري الذي يتم اعتصاره في طاحونة الفساد السياسي والإداري والمالي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.