«إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم، إن استغنيتُ استعففتُ، وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف». بهذه الكلمات يبيّن الفاروق عمر بن الخطاب حدود تعامله مع ثروات الأمة، يرعى شؤونها ويتفرغ لأحوالها، ولا تمتد يده لأموالها إلا بقدر الحاجة، بما لا يميزه عن عامة الناس، ولا يتخطى به حد ضروريات الحياة، لذلك لا عجب أنْ حاسبته الرعية عن أخذه ثوبين بدلا من ثوب واحد كسائر الناس، ليوضح ولده أنه قد أعطى أباه خليفة المسلمين ثوبه لأنه كان رجلا طويل القامة. أما إذا كان الوصي يستبيح مال اليتيم (الأمة)، فحينئذ يقول كما قال أحد المستبدين للرعية: «ما أنتم إلا عبيد إحساناتنا».
تلك هي قصة الاستبداد مع ثروات الشعوب، يرى الحاكم المطلق نفسه مالكا لثروات الأمة، وصفه الكواكبي في «طبائع الاستبداد» بالوصي الخائن القوي، يتصرّف في أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى، ما داموا ضعافا قاصرين.
في قصة عمر السالفة بيان، لأن حكمه لم يكن حكم الفرد المطلق، بل كان نائبا عن الأمة عاملا لديها، لها حق وواجب المساءلة عن أموالها: من أين لك هذا؟ الحاكم المطلق، الذي انتهج نهج فرعون (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي)، يرى أنه إن أعطى فهو فضل، وإن أمسك فهو حق، شديد السرف على نفسه وأهله وحاشيته، فلا تسل عن القصور واليخوت والمنتجعات، والأموال المكدّسة في بنوك أوروبا وأراضٍ تهلك الخيل في بلوغها، من أين جاءت. ولا تسل كذلك عن البطون الخاوية، وحاويات القمامة التي يبحث فيها الجائع عن كسرة خبز وبقايا طعام يسد بها أفواه صغاره، ولا تسل عن الملايين من الأمة الذين لا تتجاوز أحلامهم الكفاف، في بلاد عامرة بالخيرات، من نفط وغاز ومسطحات مائية ومناجم ذهب ورمال وأرض خصبة، وغيرها من الثروات التي لا يبقى معها سائل أو مُعدم، إن لم يكن هناك من ينهبها ويستأثر بها. الحاكم المطلق ينفق أموال البلاد على مظاهر الأبهة والترف، في تجاهل تام لقائمة الأولويات التي ينبني عليها إصلاح الشؤون المعيشية للشعب، أما سياسات الإنفاق فهي مجرد حبر على ورق متداول بين أيادي موظفيه، ومنهم من يجاهر ببناء القصور والاتجاه للاستزادة منها، لأنها لشعبه، ولسنا ندري هل سيجعلها سيادته مساكن إيواء للفقراء؟ أم مزارات سياحية تدر على ميزانية بلاده العملة الصعبة؟! الأوضاع الكارثية المترتبة على الحكم المطلق تعاني منها كل شعوب أمتنا، كل حكامها يتعاملون مع ثروات شعوبهم على أنها ملك خاص بهم، لكن هناك منهم من يستلب خيرات شعبه ويتصرف فيها بما تمليه رغباته وتطلعاته ويلقي الفتات للناس ويفقرهم إلى حد البحث عن قوت اليوم. ومنهم من ينهب ثروات البلاد ويعطي أبناءها ما يكفيهم أو ما يغني معظمهم، لذلك تجدهم راضين عن أدائه، مشيدين بعدله وتقواه، يدعون له بكرة وعشيا، ينشغلون بما في أيديهم عما في أيدي سارقيهم. الحاكم المطلق في تعامله مع ثروات البلاد، يغدق على الثلّة التي تدعم استبداده، ويسمح لهم بقضم أنصبتهم من الكعكة، لأنهم دعائم مُلكه الغاشم، هم ملأ الفرعون الذين يروجون له سياساته، ويمررون إدارته السيئة للبلاد، مقابل ما يسمح لهم بنهبه وحيازته من ثروات البلاد. ويبث الحاكم المطلق الذي يستولي على ثروات البلاد، سحرته الإعلاميين، ليبيعوا للجماهير وهْم إنجازاته الاقتصادية التي تنتشل الناس من أحوال الفقر والعوز تارة، وتارة أخرى يحمّلون الشعب مسؤولية التردي في الأحوال المعيشية، بسبب كثرة الإنجاب أو السلوكيات الشرائية السيئة، وغيرها مما يطيب للإعلاميين بثه لتبرئة ساحة الحاكم من تهمة إفقار الناس. وتجد الإعلامي منهم يتقاضى الملايين، ثم يأمر الناس بالتقشف، ولا يفوته أن يذكّر دائما بأحوال الدول الأخرى المنكوبة، ليرضّيهم بأحوالهم مهما ساءت. ويحرص الحاكم المطلق العابث بثروات البلاد على استخدام ورقة الدين في التغطية على سرقاته الكبرى، فلا مانع من بناء مساجد في عهده يحكي عنها الناس عقودا، ليقال كان ينفق الأموال يبتغي بها وجه الله، والأهم من ذلك إطلاق علماء السلطة المُسيسين، لمواجهة الجماهير بحشد كل النصوص التي تحض على الصبر على الفقر، وأن تقوى الله هي السبيل إلى الغنى، فكان الحق الذي يراد به الباطل، ولا عجب أن سمّاها المفكر محمد الغزالي بالدعوة الفاجرة، حين قال في تلك العبارة التي أجدني رغما عني أرددها دائما، إذا ما تحدثت عن علماء السلطة: «كل دعوة تُحَبِّبُ الفقر إلى الناس، أو تُرضِّيهم بالدون من المعيشة، أو تُقنعهم بالهُون فى الحياة، أو تُصبِّرهم على قبول البخْس، والرضا بالدَّنِيَّة، هي دعوة فاجرة، يُراد بها التمكين للظلم الاجتماعي، وإرهاق الجماهير الكادحة في خدمة فرد أو أفراد. وهي ـ قبل ذلك كله ـ كذب على الإسلام، وافتراء على الله.»
بلادنا عامرة بالثروات والخيرات، وأزماتنا الاقتصادية ليس سببها ندرة الموارد كما يدعون، وكثرة السكان ثروة بشرية لا عبئا اقتصاديا، كما يروجون، إنما هي أزمة فساد إداري ومالي، ولو أن صنبور الفساد أغلق لأكل الناس شهدا وعسلا. لذلك أقول بيقين إن الأزمات الاقتصادية التي تمر بها بلادنا لن تنتهي ما دام الحكم المطلق قائما، وهذه مشكلة عظمى لا بد من أن تدركها الجماهير، للعمل على المطالبة بحقها في إدارة شؤونها، نحن لا نقول للحكام كونوا مثل الفاروق عمر، لكن عيشوا ودعوا الناس يعيشون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.