هل يسعى بوتين لإحياء الاتحاد السوفييتي؟

“وجد الناس أنفسهم عام 1991 خارج دولتهم في ليلة وضحاها، مُبعدين بوضوح هذه المرة عن وطنهم الأم التاريخي”. هذه العبارة هي جزء من مقال بعنوان “حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين” كتبه الرئيس الروسي بوتين، نشر في الصيف الماضي، ويتم توزيعه على الجنود الروس في الوقت الحاضر.

وفي المقال يتباكى بوتين على 25 مليون روسي صاروا خارج روسيا، منهم 12 مليونا في أوكرانيا، ما يعكس اندفاع بوتين في سياساته الخارجية متأثرا بعاصفة الماضي المتمثلة في الكيان المرعب السابق، الاتحاد السوفييتي، الذي وصف بوتين انهياره بأنه الكارثة الجيوسياسية العظمى للقرن العشرين، وقال راثيا تفكك ذلك الكيان: من لا يراوده الأسى لغياب الدولة السوفييتية إنسان بلا قلب”.

لقد جاء الغزو الروسي لأوكرانيا كقفزة خارج المجال الذي حدّته أمريكا والغرب للروس، بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، عندما تم تهميش دور روسيا (وريث الإمبراطورية السوفييتية) على مستوى النفوذ الدولي، ولم تكن تحركات بوتين في تلك الأزمة الراهنة لتقتصر أهدافها على منع أوكرانيا من الانضمام للناتو، بل تتجاوز أهداف بوتين هذا الحد، إلى تحدي النظام العالمي الذي هيكل الاتحاد الأوروبي منذ تسعينيات القرن الماضي، من دون أن يكون للروس دورٌ لائق، وحدّ من امتيازات روسيا داخل الفضاء السوفييتي السابق. يهدف بوتين إلى وقف النفوذ الأمريكي الأوروبي، في المنطقة التي يعتبرها دائرة نفوذ موروثة عن الاتحاد السوفييتي السابق، ولا يرى في أوكرانيا وغيرها دول جوار، كما يتطلع إلى وقف استقطاب الناتو لدول الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي يهدد الأمن الروسي، ويحبس روسيا في نطاقها الجغرافي، في ما بعد الانهيار السوفييتي.

لا يزال بوتين مدفوعا بـ”نوستالجيا” الإمبراطورية القديمة، ويأبى بعقلية “ستالينية” أن تخرج دول الاتحاد المنهار عن هيمنته، ويسعى لقطع الطريق على هذه الدويلات للحاق بالمعسكر الغربي، بل تجاوز هذه الرغبة إلى أخرى أعم وأخطر، وهي الرغبة في تراجع الوضع العسكري للناتو إلى وضعية 1997، بما يعني الانسحاب من وسط وشرق أوروبا. بوتين يعمل على قصقصة أجنحة الناتو لينطلق من إضعافه إلى الإطاحة بالنظام الدولي وإعادة تشكيله من جديد على أساس إدراج روسيا مع الولايات المتحدة والصين في تقسيم العالم لمناطق نفوذ لهذه الأقطاب الثلاثة، لذلك لا يمكن القول بأن بوتين قد دخل حربا غير مدروسة، حتى إن كان الأمريكيون يرون فيها إعادة لسقوط الروس في المستنقع الأفغاني، فالرجل لم يقدم على هذا الإجراء إلا بعد أن حصل على عدة نقاط تفوق وتميز:

أولها: تراجع الدور الأمريكي كشرطي للعالم، ومن صوره إيجاد الروس موطئ قدم لهم بشكل أكبر فاعلية من الأمريكيين في سوريا وليبيا
ثانيها: إقامة علاقات متينة مع دول في منطقة الشرق الأوسط كانت تولي وجهها شطر البيت الأبيض، فمصر على سبيل المثال لها في عهد السيسي علاقات اقتصادية مع روسيا، وتعتمد على واردات القمح منها بشكل أساس، وعلى صعيد التسليح العسكري تنتهج القاهرة مبدأ تنويع مصادر السلاح، وتأتي روسيا على رأس الدول التي تعقد معها صفقات الأسلحة، كما لها ارتباط وثيق بروسيا في مجال الطاقة، وأبرز مظاهره مشروع الضبعة النووي ببناء وتمويل روسي. وكذلك السعودية، ارتبطت مؤخرا بعلاقات متينة بروسيا، على خلفية سياسة جو بايدن الجديدة التي عمّقت من المخاوف الخليجية تجاه النفوذ الإيراني، مخالفا في ذلك سلفه ترامب، الذي مدّ مظلة الحماية الأمريكية للدول الخليجية، وتمسك بعقوبات اقتصادية مفروضة على إيران، ما ألجأها إلى الانفتاح على روسيا.

ثالثها: وهو يتعلق بمجال الطاقة، حيث أصبح الغاز الروسي هو عصب الحياة في أوروبا، والتي تعتمد عليه بشكل رئيسي، إذ يمثل الغاز الروسي 40% من حاجتها، لذلك لا يتوقع للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها أمريكا والاتحاد الأوروبي أن تكون ذات فاعلية وتأثير في الحرب الروسية على أوكرانيا، إذ أن التدخل العسكري لأوروبا سوف يدخلها في أزمة طاحنة، وليس هناك دولة في العالم تستطيع سد حاجتها من الغاز حال الدخول في حرب مع روسيا.

رابعها: على المستوى المحلي، أقدم بوتين على هذا الإجراء وهو يعلم جيدا تبعاته والعقوبات الاقتصادية المحتملة التي يفرضها المجتمع الدولي، واستعد لها مسبقا، فعلى مدى عقد من الزمان خفّض الديون المحلية للقطاعين العام والخاص، وأتاح للبنك المركزي الوقت الكافي لبناء صندوق حرب من الأصول الأجنبية الكبيرة، بما يكفي لدعم الشؤون المالية للبلاد لأشهر، إن لم يكن لسنوات، يعني أنه من غير المرجح أن يكون للعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان وكندا أي تأثير كبير على الاقتصاد الروسي أو استقراره المالي، وهو ما خلصت إليه صحيفة “الغارديان” البريطانية في تقرير لها.

تأسيسا على هذا، يُتجه إلى القول بأن روسيا لن تخرج قواتها من أوكرانيا إلا بعد التأكد من عزلها عن الناتو ونفوذ الغرب الأمريكي والأوروبي، قد يكون من خلال إسقاط حكومة كييف، وإحلال حكومة أخرى موالية لروسيا، تمنع أوكرانيا من أن تكون قاعدة للناتو تهدد مصالح الروس، وتفسح الطريق أمام مزيد من الهيمنة الروسية على دول الاتحاد السوفييتي، ليتم لبوتين حلمه الأكبر في إحياء الإمبراطورية، التي انهارت نهايات القرن الماضي. لقد أصبح بوتين مصدر قلق لأمريكا والاتحاد الأوروبي، حتى أن هيلاري كلينتون، عبرت عن تلك المخاوف سابقا بقولها إن بوتين يسعى لإعادة كتابة حدود أوروبا الشرقية، كذا أعرب وزير الدفاع البريطاني الأسبق مايكل فالون، عن قلقه الشديد حيال السياسة الخارجية التي ينتهجها بوتين، وصرح بأنه يمثل خطرا على المنطقة عبر التكتيكات المستترة التي يصدرها للجمهوريات السوفييتية السابقة، والتي من شأنها زعزعة استقرارها تمهيدا لضمها.

وعلى الجانب الآخر، وفي الوقت الذي نتحدث فيه عن الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، تقف بلادنا العربية تشاهد المعركة في بلاهة، لترى إلى أين يتجه مصيرها على خريطة الصراع، ذلك لأنها إلى الآن لم تقدم مشروعا وحدويا يجمع شتاتها، ويأخذ بها إلى مصاف القوى العسكرية والاقتصادية الكبرى، التي تقرر مصيرها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

آفة تبرير الأخطاء

الخطأ طبيعة بشرية، فما من إنسان إلا ويقع في ارتكاب الأخطاء، والنبي صلى الله عليه …

تعليق واحد

  1. القيصر الواهم المزيف بوتين لا يريد مواجهة الأطلسي، فقط استعراض القوة في أوكرانيا، ولكن فاجأته المقاومة الأوكرانية هذا المتغطرس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *