«ليس على الإنسان أن يدرك النجاح في العواقب، وإنّما عليه أن يتحرّز في المبادئ»، عبارة ذهبية وقعت عليها عيناي، بينما أقلب صفحات كتاب «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي، تعزز قيمة الاهتمام بصحة المسالك، وتجنب العبث فيها بدعوى خدمة الأهداف.
إن أصحاب القضايا العادلة هم أولى الناس بهذه النصيحة والعمل بها، حتى في أوج استهداف قضاياهم ومحاولات الاعتداء عليها، وحتى إن كان خصومهم لا يكترثون للمبادئ، ولا يقيمون لها وزنا، وحتى إن كان خصومهم على خطا مكيافيللي سائرين، فالمبادئ لا تتجزأ، والأحرار لا يكيلون بمكيالين، فلهذه الأمة خُلقٌ قويم أنشأه كائنها الروحي، الذي عناه الأديب الرافعي: المبادئ المنتزعة من أثر الدين واللغة والعادات، وهو قانون نافذ يستمد قوته من نفسه؛ إذ يعمل في الحيز الباطن من وراء الشعور، متسلطا على الفكر، مصرفا لبواعث النفس؛ فهو وحده الذي يملأ الحي بنوع حياته، وهو طابع الزمن على الأمم.
قرع صدى هذه القيمة، كياني على إثر ما انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، ورددته أقلام وصحف شهيرة، من قصة للناشئة منسوبة إلى مناهج التعليم الإماراتية، تتضمن دعوة فاضحة للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي تحت ستار التسامح الديني. عنوان القصة التي نسبت إلى منهج الصف الثاني في التعليم الإماراتي «جارنا الجديد يوسي»، وتدور حول هذا الطفل يوسي الذي قدم من تل أبيب، ويعاني الشعور بالخوف والوحدة والقلق، خاصة عندما يُسأل عن اسمه، وتبدو عليه أمارات الشعور بمرارة الغربة، فأثارت عزلته تلك اهتمام فتاة عربية، استشارت أباها، فنصحها بتبديد خوفه وطمأنته وتأليف قلبه بهدية من الحلوى ليطمئن إليها.
القصة لا شك في أنها تخدم عملية التطبيع بامتياز، ولا تمت للتسامح الديني بصلة، ففي السياق دعوة للتسامح مع الإسرائيلي الصهيوني وليس اليهودي، فهو لم يتناول الشخصية باعتبارها شخصية يهودية نتسامح معها، وهذا بلا شك أمر محمود، بل تناولها باعتبارها شخصية من تل أبيب، أي إسرائيلية محتلة. حقيقة ثارت ثائرتي عندما طالعت هذا الخبر المستفز، وعزمت على التحقق منه أولا قبل البداية فيه، وبينما أنا على هذه الحال، أتاني النبأ اليقين من خلال مواقع متخصصة في تفنيد الأخبار المتداولة، والوقوف على مدى صحتها. تبين أن الكتاب المدرسي الذي يتضمن تلك القصة، ليس كتابا تابعا للتعليم الإماراتي كما زعموا، بل هو نسخة مزورة من منهج التعليم الفلسطيني، قام الاحتلال بتزويرها والترويج لها، خاصة في القدس التي تقع مدارسها تحت سيطرته، بهدف ضرب الهوية الفلسطينية، وهي ليست المرة الأولى التي يفعل فيها الاحتلال مثل هذا، فمحاولاته لتزوير المناهج التعليمية في فلسطين ودسّ أفكاره فيها، متعددة متكررة.
انتشرت نسبة هذا المقرر الدراسي إلى الإمارات، انتشار النار في الهشيم، ومع الأسف الشديد رددته قامات ثقافية وسياسية وإعلامية، من دون التدقيق في صحته. نعم الحكومة الإماراتية تقوم بدور عراب التطبيع، نعم مناهج التعليم الإماراتية الجديدة تدرس اتفاقيات إبراهيم، وتطمس معالم الصراع العربي الإسرائيلي، لكن كل ذلك لا يمنح معارضي التطبيع الحق في تجاوز القسطاط المستقيم، أو العدول عن ميزان الحق. من حقنا أن نرد على كل مطبع أو داعٍ إلى التطبيع، لكن ليس من حقنا أن ننسب إليه ما لم يفعل أو يقل، حتى وإن كان الأصل موجودا لديه. لقد كشف لي هذا الحدث أننا جميعا مصابون بداء عدم التثبت في النقل، لم يخل منه حتى أصحاب القضايا العادلة، الذين عانوا طويلا من أصداء هذه الآفة، وشددوا النكير على القائمين عليها والمروجين لها، وكانت صيحة المكلوم دائما: هلا تثبتوا! المشكلة التي يقع فيها كثير من المتخندقين للدفاع عن القضايا المشروعة، تهاونهم في بعض الأحيان في الالتزام بمعايير الحق، طالما أن خصومهم على الباطل، حيث يتعاملون ببساطة مع الأمور القادحة التي تصدر عنهم، وإن كان يلفظها الإطار القيمي، مقابل تشديد النكير على من يصدر عنه الشيء ذاته، طالما خرج من جهة الخصوم.
تفاقم هذا الأمر، وفي كل يومٍ تقع قضايانا العادلة في الحرج، بسبب بث الأخبار والصور المفبركة، التي سرعان ما يُبين الخصم زيفها وكذبها، فتُكال التهم إلى المتخندقين مع هذه القضايا بأنهم مزورون مدلسون، وهذا من شأنه أن يضعف هذه القضايا في نفوس الجماهير، ولذا جاء في الحديث النبوي الشريف: (بئس مطية الرجل زعموا)، هؤلاء الذين ينقلون عن الآخرين بغير تثبت، مكتفين بما يردده غيرهم واشتهاره. والأشد منهم إيذاءً لتلك القضايا، الذين يروجون لهذه الأخبار، وهم يعلمون أنها لا تمت للحقيقة بصلة، يسوغون لأنفسهم ذلك بأنهم يواجهون أولي باطل، تحلّ مواجهتهم بأي سلاح، فضلَّ سعيُ هؤلاء وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
قد علم القاصي والداني، أن الفروسية لا تعني اعتلاء ظهور الخيل فحسب، إنما هي إطار أخلاقي ومجموعة من الآداب القويمة، وهي ركيزة أساسية في المجتمع العربي، زادها الإسلام نورا، حتى إن الكاتب الإسباني فيسنتي بلاسكو إيبانيز قال: «إن أوروبا لم تكن تعرف الفروسية ولا تدين بآدابها المرعية ولا نخوتها الحماسية قبل وفود العرب إلى الأندلس، وانتشار فرسانهم وأبطالهم في أقطار الجنوب». ينبغي أن لا يتخلى أصحاب القضايا العادلة عن أخلاق الفرسان، فغيرهم ليس معيارا أو قدوة لهم، حتى في الخصومة لا بد من أن تكون أخلاق الفرسان ماثلة، فلا طعن في الظهر، ولا فجر في النزاع، فالحق لا يحتاج في بيانه إلى خداع أو تزييف أو تزوير، إنما يعبر عن نفسه، إذا ما حمل القائم عليه صدقا وإخلاصا في قضيته، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.