يُعرف عن الشاعر البحتري قلة بضاعته في شعر الهجاء، وكان ولده يعزو ذلك إلى أن أباه لما حضرته الوفاة دعا به وقال له: اجمع كل شيء قلته في الهجاء، فأمره بإحراقه، ثم قال: يا بني هذا شيء قلته في وقت، فشفيت به غيظي وكافأت به قبيحا فعل بي، وقد انقضى إربي في ذلك، وإن بقي رُوي، وللناس أعقاب يورثونها العداء والمودة، وأخشى أن يعود عليك من هذا شيء في نفسك أو معاشك لا فائدة فيه لك ولي”.
إذا كان هذا حال من يهجو أفرادا من الخصوم، لا يرغب في بقاء شيء من آثار هجائه إياهم بعد مماته، فماذا عمن يهجو منهج أمة وسخّر قلمه ولسانه ومنابره لهدم بنيان ذلك المنهج بدعوى تجديد البناء؟
لقد صدق الإمام ابن حجر العسقلاني في مقولته الشهيرة: “إذا تكلم المرء في غير فَنِّهِ أتى بالعجائب”، وقد أوغل الكاتب المصري إبراهيم عيسى في التكلم في غير مهنة الصحافة والإعلام، وأتى بالعجائب عندما خاض في أصول الدين وفروعه، وشتى علومه، وجعل من نفسه بوابة للتاريخ الإسلامي، مع أنه من زمرة الصارخين بعدم التصدّر في الخطاب الديني لغير العلماء الرسميين في الدولة، فلا بأس عنده بهذا التناقض طالما أنه سينال من خصومه الإسلاميين ويقصيهم من الساحة.
الكاتب إبراهيم عيسى منذ سنوات وهو يأخذ على عاتقه مهمة خلخلة التراث الإسلامي، والموروث الديني، تحت مظلة التجديد ونشر الفكر المستنير، لكنه فعل كما تقول العرب: “أبعد النجعة وأغرق في النزع”، ولم يترك حدثا ولا أزمة إلا وربطها بالمنهج الإسلامي وحَمَلَتَه، مُحمِّلا المنهج والسائرين به المسؤولية عن إنتاج تلك الأزمات. لقد أجبرنا الكاتب على أن نتساءل حقًا: من يحارب؟ من عدوه؟ من يواجه؟ ما قضيته؟ إن كانت قضيته التصدي للإرهاب، فلماذا يوسع دائرته ليشمل حتى المتبرئين منه؟ ولماذا يصر على خلط الحابل بالنابل، ووصم كل خصومه من حملة المنهج بالإرهاب؟ لماذا يهاجم التراث الإسلامي ويهاجم الرعيل الأول؟ لماذا ينتقي الروايات التاريخية الكاذبة، التي أريد بها تشويه الجيل القرآني الفريد، ثم يصدرها للرأي العام بعد الطنطنة حولها، بما لذ وطاب له من الافتراءات وإساءة الأدب؟ لماذا يلوي أعناق النصوص ويقدم تفسيرها على طبق من الريبة إلى الجمهور، الذي يقع معظمه تحت طائلة الجهل بالدين؟ لماذا يزهّد الناس في خير القرون، بدعوى استقلالية الفكر والنقد وتحرير العقل مع أنه لن يستطيعه مع الحكام أو الرموز الدينية للملل الأخرى؟ الكاتب إبراهيم عيسى المحسوب على التيار التنويري، لم يدع إلى تنقيح المرويات في السير والتراجم والتاريخ من الضعيف والسقيم، وإلا كنا معه، ولم يدع إلى تجديد أسلوب الخطاب الديني وعرضه بما يناسب العصر – لا بتغيير مضمونه- وإلا كنا معه، ولم يدع إلى نبذ التعصب المذهبي أو حمل الناس على رأي واحد من الأقوال الفقهية المعتبرة في الأحكام وإلا كنا معه، لكن الإصلاح المزعوم الذي أخذه الكاتب على عاتقه يتضمن العبث في الثوابت وأصول الدين ونزع القداسة عن نصوص الوحيين. لم نر وجها من أوجه التجديد والاستنارة لدى الكاتب عندما كان يستفز مشاعر المسلمين ويستهزئ بالآية الكريمة (هلك عني سلطانيه) وجعل يشير إلى رأسه وهو يقول سلطانية سلطانية (ويعني بها وعاء نصف كروي من الخزف يوضع فيه الطعام).
ولم يجدد في الدين عندما أنكر الحجاب ضاربا بالنصوص القرآنية والنبوية وإجماع الأمة عرض الحائط. ولم يجدد في الدين أو يحارب ظلامية الفكر عندما أساء الأدب مع رموز الأمة من الصحابة وعلماء الأمة، وجلب من بطون كتب أعدائهم ما يتقوّل به عليهم ويتهمهم بأنهم كانوا قتلة آكلي رؤوس البشر. ولم يحارب الفكر الظلامي عندما قال، إن محمد القرآن غير محمد السنة، مدعيا وجود تعارض بين صورة النبي، صلى الله عليه وسلم، في القرآن وصورته في السنة.
هل كان من التجديد أن يطرح إبراهيم عيسى على عموم الجمهور قضايا فقهية يحتاج النظر فيها إلى متخصصين حتى يثير البلبلة بين الناس؟ مع أنه لو طرح أحدهم سؤالا على الفلاحين البسطاء الذين يحرثون أرضهم ـ مع كامل الاحترام لهم – عن نظرية النسبية لهاجمه إبراهيم عيسى نفسه. ولم يكن سلوكه من التنوير في شيء عندما استفز مشاعر الأمة، واعتبر الرسوم الغربية المسيئة لنبي الإسلام، صلى الله عليه وسلم، أمورا شكلية لا تستوجب الانفعال. وهل كان يسعى إلى تجديد الدين وهو يدعي أن عذاب القبر أكذوبة اخترعها المسلمون للتخويف من الآخرة، على الرغم من ثبوته بالكتاب والسنة والإجماع؟ بل أمعن في ذلك التدليس عندما تقوّل على الإمام ابن حزم مدعيا أنه أنكر عذاب القبر.
التجاوزات التي صدرت عن إبراهيم عيسى أكثر بكثير مما يتسع له المقام، ولكن صدر عنه مؤخرا تصريحان أحدثا دويا كبيرا تناولته على إثرها وسائل إعلام تتجاوز الحدود المصرية. أولهما كان عن جريمة بشعة حدثت في إحدى المدن المصرية وذاع صيتها، حين أقدم شاب على قتل رجل خمسيني أمام المارة، وفصل رأسه عن جسده وسار به أمام أعين الناس في هدوء، وبدلا من أن يناقش الكاتب إبراهيم عيسى تأثير أفلام البلطجة والعربدة، واستخدام الأسلحة البيضاء على الشباب، وتسبُّب هذه العينة من الأعمال الفنية في تغيير سلوك قطاعات واسعة من الناشئة والشباب، وهي علاقة أكدها تقريبا كل من يتابع رصد الواقع المصري، بدلا من ذلك رفض تحميل الفن المسؤولية عن هذه الجرائم، واتهم الجماعات الإسلامية والسلفيين على وجه التعيين، بإدخال السيف وقطع الرؤوس في الثقافة الراهنة، وتستطيع أن تتفق أو تختلف مع التيار السلفي، إلا أن تجاهل تبرؤ هذا التيار من جرائم “داعش” وأخواتها وكل الجماعات الإرهابية يعد من التدليس البيّن الظاهر، فالتيار السلفي في مجمله عبارة عن تيار علمي دعوي، كما أن تجاهله لما عرف في شتى بقاع الأرض شرقا وغربا في غير المسلمين من عمليات قطع الرؤوس، حيْدة واضحة عن الحقائق الساطعة.
الواقعة الثانية كانت حديثه في أحد برامجه الذي عبر فيه عن سخطه على الصيدلاني الذي دخل عليه ووجده يقرأ القرآن، منتقدا ذلك بأن الواجب على الصيدلاني أن يقرأ في مراجع الأدوية، بدلا من قراءة القرآن، الأمر الذي أثار الرأي العام في مصر، خاصة نقابة الصيادلة وبعض الدعاة الغيورين.
وإن موقفه هذا يجعلنا نطرح عليه هذا السؤال: هب أنك دخلت على الصيدلاني ووجدته يسلي وقته بمشاهدة فيلم الرسوم “توم آند جيري”، هل كنت ستخرج على مشاهديك للطنطنة حول ما رأيته؟ إن هذه المسالك التي يقتحمها الكاتب تثير حيرتنا حول ماهية القضية التي يحمل الكاتب على عاتقه القيام بها والتصدي لها، وأكثر ما يثير الدهشة هو السماح لرجل يستفز أمة بأسرها في أن يزاول استفزازاته بهذه الأريحية دون رقيب، ثم بعد ذلك نتساءل عن أسباب الإرهاب، مع أن ما يقوم به إبراهيم عيسى وأشباهه يسهم بقوة في إنتاج الإرهاب، ويُحمّل الدول والأنظمة عبء الاتهامات التي تكال لها حول رعاية العلمانية الدخيلة على المجتمع الإسلامي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
، والله غالب على أمره