سيظل قارئ التاريخ يتساءل: من المسؤول عن حرب البسوس التي دارت على مدى أربعين عاما بين التغلبيين والبكريين؟ هل هو كليب المالك الصارم المتعسف الذي رمى ناقة رعت في حماه؟ أم هو جساس بن مرة الفتى المتهور الذي قتل كليبا بالناقة؟ أم هو المهلهل أخو كليب الذي لم يقنع بأي حل سلمي، دون أن يُفني جميع البكريين ثأرا لأخيه؟ ولكن في كل الأحوال كان أهل الحيّين السوقة هم الذين دفعوا ثمن كل هذا، فترمّلت النساء وتيتم الصبيان.
على طريقة حرب البسوس نجد أنفسنا واقفين للبحث عن المسؤول عن تلك الأزمة الناشبة بين لبنان والخليج، التي سيكون على الشعب اللبناني المطحون الغارق في الأزمات أن يتحمل تبعاتها.
جورج قرداحي وزير الإعلام اللبناني، والإعلامي السابق الذي لطالما تساءل على الفضائيات: من سيربح المليون؟ يقينا قد بات يتساءل عن كم ومقدار الخسارة المحتملة المترتبة على تصريحاته المؤيدة للحوثي، المناهضة لدول التحالف وعلى رأسها السعودية، التي سارعت إلى سحب سفيرها من بيروت وطرد السفير اللبناني، ووقف الإيرادات اللبنانية، وتبعتها في ذلك البحرين ثم الكويت، إضافة إلى الإمارات التي سحبت دبلوماسييها في بيروت، ومنعت سفر مواطنيها إلى ذلك البلد، بما بات يهدد لبنان بفرض عزلة عربية تفاقم من أزماته التي لا تنتهي.
هذه الأزمة بشبح تبعاتها الذي يخيم على الأجواء اللبنانية، تتوزع المسؤولية عنها بين أطراف عدة، أولها بالطبع جورج قرداحي مفجر الأزمة، على الرغم من أن تصريحاته التي أيد فيها الحوثيين – واعتبر أنهم يدافعون عن أنفسهم ضد العدوان السعودي الإماراتي – كانت سابقة على توليه منصب وزير الإعلام.
مسؤولية قرداحي لا تتمثل في تصريحاته تلك فحسب، فهذا رأيه الذي قال به بصفته الشخصية كإعلامي، لكن ينبئ عن ضلوعه الجسيم في الأزمة، إن تصريحاته نتاج طبيعي لعلاقته بحزب الله اللبناني، الذي سارع إثر هذه الأزمة إلى تأييد تصريحات قرداحي ووصفه بأنه دافع عن المظلوم (الحوثي)، ووليدة علاقة أخرى بالنظام السوري، حيث أنه من أنصار بشار الأسد، وسبق له في 2018 أن اعتبر بشار الأسد رجل العام، وقال إنه صمد في وجه حرب كونية، ومنع سقوط لبنان والأردن ودول الخليج، ووليدة علاقة أخرى تتمثل في ارتباطه بالنظام الإيراني، منذ عمله في إذاعة مونت كارلو الفرنسية، ولقائه آية الله الخميني في 1979 في نوفل لوشاتو في فرنسا التي دعمت الخميني في الثورة الإيرانية، ثم لقائه خامنئي في طهران عام 2015، ولذا فلا عجب من أن وكالة فارس الإيرانية سارعت على إثر الأزمة بتصدير تقرير عنوانه «هجوم السعودية وأذيالها على قرداحي.. قنابل دخانية للتعمية»، اعتبرت فيه أن السعودية تريد من هجومها على قرداحي تأمين سبب لانسحاب قناة إم بي سي من الأراضي اللبنانية إلى المملكة، بحجة الإساءة من إعلامي كان يعمل فيها، كما أن السعودية أرادت بهذه الأزمة، التعمية على استدعاء رئيس حزب القوات اللبناني سمير جعجع، الذي تراهن عليه السعودية للتحقيق بشأن قضية الطيونة، وفقا للوكالة الإيرانية.
قرداحي مسؤول مرة أخرى عن عدم تقديم اعتذار لدول الخليج، وعدم تقديم استقالته للإسهام في تهدئة الأجواء وإطفاء نيران الأزمة. الحكومة اللبنانية بدورها مسؤولة عن التصعيد في تلك الأزمة، فهي في البداية ضمت إليها جورج قرداحي لحمل حقيبة وزارة الإعلام، وهي تعلم توجهاته التي ذكرناها آنفا، في ظل الاحتياج اللبناني الشديد للمساعدات الخليجية، وفي ظل اختزال المعونات السعودية بسبب مخاوفها من النفوذ الإيراني في إيران وهيمنته على صناعة القرار في الداخل اللبناني، وتأثير حزب الله الموالي لإيران على الحياة السياسية في هذا البلد. وهذا بدوره يقودنا إلى حقيقة انقسام لبنان عموديا بين النفوذ الإيراني والنفوذ السعودي، الذي تمخض في النهاية عن وجود تركيبة سياسية يتحكم فيها حزب الله، الذي يمثل إيران داخل لبنان، ولذا رأينا الموقف السياسي من الأزمة لا ينحصر في سكب الاعتذارات، وبيان تمسك الدولة بحلفائها العرب، فهناك من يدافع عن قرداحي كما فعل رئيس تيار المردة النائب اللبناني سليمان فرنجية، الذي رفض مقترحا بأن يقدم قرداحي استقالته، وأعلن تأييده لوزير الإعلام.
وتخطئ الحكومة ثانية بعد نشوب الأزمة، في كونها لم تمارس ـ في ما يبدو – ضغوطا حقيقية على قرداحي لتقديم استقالته، وأعتقد أن ذلك عائد إلى اصطدام القرار بنفوذ حزب الله الموالي لإيران، لكن الذي أميل إليه إلى أنها لن ترى بديلا عن هذا الحل بعد أن استبانت تبعاته وبدأت إرهاصات العزلة الخليجية، ولذا يتوقع في اليومين المقبلين أن يتقدم قرداحي بتقديم استقالته، لتنطلق الحكومة، من خلال هذه الأرضية لتفاهمات تستأنف على إثرها العلاقات مع السعودية ودول الخليج.
دول الخليج مسؤولة هي الأخرى عن التصعيد في هذه الأزمة، فلم تكن ردة فعلها مناسبة للحدث، خاصة أن تصريحات قرداحي كانت قبل توزيره، فيبدو أنها جزمت أن لبنان لن يكون حليفا خالصا في الخندق الخليجي، وأنه سيبقى رهنا لصراع النفوذ الإقليمي ولذا، وبعد أن كانت المملكة أكبر الداعمين للبنان، أعادت النظر في سياستها تجاه لبنان والمساعدات العسكرية والمالية التي تقدمها لهذا البلد، واقتصرت على المساعدات الإغاثية عبر المنظمات الدولية، من دون المرور بمؤسساته، وتبدي استعدادها للمساهمة في الإعمار مقابل إصلاحات تنهي هيمنة حزب الله.
التصعيد السعودي على إثر الأزمة طرح تساؤلات حول آخرين يدعمون موقف الحوثيين، كالنظام السوري الذي كرّم الملحق العسكري للحوثيين في دمشق، ويؤيد الحوثي ضد قوات التحالف، ومع ذلك بدأت بعض الدول الخليجية والعربية في الهرولة باتجاه التطبيع مع نظام الأسد، بعد أن بات بقاؤه في السلطة في حكم المؤكد، رغم الخلافات والصراعات العميقة بين الطرفين. كما لم تتم محاسبة رئيس النظام المصري بعد التسريبات التي تظهر تعامله مع دول الخليج، على مبدأ الابتزاز إبان توليه منصب وزير الدفاع قبل أن يصبح رئيسا لمصر.
كان الأولى بدول الخليج الاكتفاء بتأكيدات الدولة اللبنانية على أنها لا تتبنى ما ذهب إليه قرداحي قبل توليه منصب وزير الإعلام، وأنه لا يعبر عن وجهة النظر الرسمية. كان الأولى بها أن تعمل على تمتين العلاقات مع لبنان وتخليصه من هيمنة النفوذ الإيراني، لا أن تقوم بالتصعيد وتسعى لفرض عزلة على هذا البلد الذي أنهكته الأزمات. وإن دول الخليج إذ تتخلى عن لبنان، فإنها بذلك تهيئ الأجواء لارتمائه في أحضان إيران بشكل كلي، التي لا بد أنها ستمد يد العون، لأن لبنان في الأصل واقع في حيز الهلال الذي تسعى إيران للسيطرة عليه.
كل هذه الأطراف مسؤولة عن التصعيد، والشعب اللبناني المطحون هو من يحاسب على فاتورة صراع النفوذ الإقليمي في لبنان، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.