دائما هناك وسيلة تُجمّل وجه الحاكم، وتبرز محاسنه وتستوجب تقديسه، استخدم فرعون أعوانه السحرة في مناجزة دعوة موسى، فألقوا حِبالهم وعصيّهم فخُيّل للناس أنها تسعى، واستخدم الإمام يحيى مؤسس المملكة المتوكلية اليمنية الفوسفور، الذي كان يدهن به جسده ليظهر في الليالي المظلمة للناس، ليقسموا أنهم رأوا إمامهم يشع نورا، ولا تزال عجلة الزمان دائرة، ولا تزال وسائل الدجل التي تُمارس على الشعوب متعددة.
ولما كانت الدراما سبيلا لتوجيه الرأي العام وتغيير اهتماماته، بما لها من تأثيرٍ عميقٍ جعل واضع الفلسفة الشيوعية كارل ماركس يقول: «لأُنسِيَّن الناسَ اللهَ بالمسرح» فقد سار رئيس النظام المصري على النسق ذاته بشكل مختلف، فاستخدم الدراما بقوالبها المتعددة، أفلام ومسلسلات ومسرحيات، ليقوم بغسل أدمغة المصريين، وإفقاد الشعب المصري ذاكرته حيال الجرائم التي ارتكبها النظام، وغسل يديه من تلك الجرائم التي أصبحت محط أنظار العالم بأسره.
ربما أعتبر نفسي واحدة من تلك الجماهير العربية الغفيرة، التي تتابع الدراما المصرية، على اعتبار أن مصر رائدة في هذا المجال، لدرجة أنها تسمى هوليوود الشرق، فقد طالعت أفلاما ومسلسلات عديدة، طبعت فيَّ الشعور بأنها منظومة متناسقة مُسيّسة بامتياز، تجعل من يتأملها يجزم بأن هذه الأعمال صناعة استخباراتية، يُراد منها تحسين وجه السيسي ونظامه، من خلال أساليب التكرار والملاحقة، والإثارة العاطفية والتزوير والخداع التي تغير اتجاهات الرأي العام في مصر. رئيس الانقلاب استدعى الأسلوب الناصري، الذي كان يُسخّر الدراما لخدمة توجهاته، وتحسين صورته، ولا أعتقد أن مواطنا عربيا لم يشاهد فيلم «رُد قلبي» الذي كان ترويجا صريحا لاشتراكية عبد الناصر وانقلاب 52، الذي حضر مع رجاله العرض الخاص للفيلم، غير أن السيسي لم يترك مجالا لتنفُّسِ أهل هذا السوق بعيدا عن سيطرته وتوجيهاته.
احتكر النظام المصري الإنتاج الدرامي عن طريق شركة سينرجي، وهي واحدة من شركات عدة تعمل في مجال الإعلام، وتخضع لسيطرة مجموعة «إعلام المصريين» المرتبطة بجهاز الاستخبارات، الذي يمتلك أغلب شبكات القنوات الفضائية المصرية، ومن خلالها تم فرض نمط درامي لتمجيد الجيش والحكومة والداخلية، وليست هذه الرؤية تكهنات لكاتبة هذه السطور، وإنما تم رصد هذا التوجه وتناوله من قِبل الصحف العالمية، فمنذ عامين قالت صحيفة «التايمز» البريطانية في مقال بعنوان «المسلسلات المصرية آخر ضحايا حملة السيسي» إن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومنذ توليه السلطة عام 2014، سعى للسيطرة على السياسة وخنق النقاش الفكري والحد من حرية الصحافة، لكن رغبته الآن في السيطرة على المجال العام امتدت إلى عالم المسلسلات والدراما. كما صدر تقرير عن رويترز في العام نفسه بهذا الصدد، يتناول سيطرة السيسي على الإعلام لخدمة توجهاته، وسيطرته كذلك على صناعة الترفيه والمحتوى الدرامي.
من المعلوم أن الأنظمة الاستبدادية تسيطر على الدراما، لكنها تضع الخطوط الحمر التي ينبغي عدم تجاوزها، وتترك السوق لصناع الدراما يبدعون كيفما شاءوا، طالما لم يتجاوزوا هذه الخطوط، لكن الأمر غير مسبوق في دراما عهد السيسي، حيث صار يفرض سيطرته على نوعية الأعمال، ويسخرها لخدمة توجهاته السياسية، وتعزيز الرواية الرسمية للأحداث، بغض النظر عن مدى اتساقها مع واقع الشارع المصري. وإذا عقدنا على سبيل المقارنة بين الدراما المصرية على هذا النحو، والدراما التركية، سنرى بوضوح أن الأعمال الدرامية داخل تركيا متروكة لتفاعل الوسط، واتجاهات شركات الإنتاج، التي تسيطر بقايا العلمانية الأتاتوركية على معظمها، لكن في المقابل تتبنى الدولة خطًا موازيا متناميا وهو الدراما التاريخية، التي تعيد ربط الأتراك بتاريخهم العثماني، من دون السيطرة على خطوط الإنتاج الأخرى. وبرصد الأعمال الدرامية في عهد السيسي يمكننا تحديد بعض ملامحها:
*أولًا: تحسين صورة المؤسسات الصلبة، التي تمثل عصب النظام وقوائم عرشه، وأبرزها الجيش، الذي يوليه أهمية قصوى انطلاقا من الحاجة إلى تحسين صورته، بعد تغير عقيدته القتالية وانخراطه في السياسة وتغوّله في الاقتصاد، وتحول دوره من حماية الحدود وحماية الأمن القومي إلى حماية أمن النظام الحاكم، واستخدامه في سفك دماء المعارضين، كما حدث في مذبحة رابعة وغيرها، وتهجير المواطنين في سيناء. ويلاحظ أن فيلم «الممر» الذي يتناول فترة حرب الاستنزاف، جاء بعد عقود طويلة من صمت الدراما عن إنتاج الأعمال المتعلقة بحرب أكتوبر، بعد إبرام معاهدة السلام مع العدو الصهيوني، لأن الحاجة اقتضت تحسين وجه الجيش وتذكير الجماهير الساخطة بأمجاده القديمة، وإحقاقا للحق كان العمل جيدا، واجتمعت على التفاعل معه البيوت المصرية، لكنه كان أشبه بالمصيدة، ومقبلات فاتحة لشهية المصريين لانتظار مثل هذه الملاحم عن الجيش المصري، ولذا وجه السيسي للإكثار منه.
ومن هذه الأعمال التي مجدت الجيش المصري وأعماله في سيناء مسلسل «الاختيار» الذي أظهر الجيش بصورة ملائكية مثالية، وقلبا للحقائق أو تزييفها، أبرز المسلسل حيادية الجيش المصري في أحداث ما بعد الثورة، وهو ما يعارضه الواقع، إذ كان الجيش سندا لجبهة الإنقاذ المعارضة، وتورط في وضع العراقيل أمام الرئيس الراحل محمد مرسي وحكومته، ولم ينس مسلسل «الاختيار» التركيز على تعزيز الصورة التي رسمها النظام عن جماعة الإخوان وربطها بالإرهاب.
تتوالى أعمال المصيدة، ليجد المشاهد المصري نفسه أمام أعمال أخرى مرتقبة، أحدث البرومو الخاص بها ضجة قوية، وهو فيلم «السرب» المقرر عرضه قريبا، والذي يجسد الطلعات الجوية التي شنها الطيران المصري لضرب تنظيم «داعش» ردا على قتله بعض الأقباط، للتأكيد على مواجهة النظام للإرهاب، رغم أن الطلعات أسقطت العديد من الضحايا المدنيين الأبرياء، لكن العمل تم إصداره ليوافق الرواية الرسمية التي ترددها الدولة فحسب. ولأن الشرطة هي الذراع الأيسر لنظام السيسي، وعصاه التي يسوق بها الشعب، وقسيم الجيش في حفظ النظام، فقد عمدت الدراما إلى تحسين صورتها، وأظهرت ضباطها وأفرادها بصورة مثالية، تصطدم تماما مع ما هو معروف عنها من إذلال الشعب وقمعه، فترى ضابط الشرطة في دراما السيسي، لا يغدر ولا يغش ولا يخون، وينصر المظلوم، ويتلاحم مع الشعب، وكان من أشهر هذه الأعمال سلسلة مسلسل «كلبش» الذي يجعل من يجهل طبيعة تعامل الشرطة مع الشعب، يخفق قلبه تعاطفا مع هذه المؤسسة. والمتابع لأخبار الدراما المصرية حتما سيقف عند ما يتداوله الوسط من العمل المنتظر «الاختيار 2» الذي يتناول هذه المرة بطولات الشرطة المزعومة في التصدي لاعتصام رابعة، حتى يغسل السيسي ونظامه أيديهم من هذه المجزرة بعد تزييف الحقائق، من خلال هذا العمل الفني، الذي يسعى من خلاله لأن يطمس معالم الجريمة البشعة.
*ثانيا: تعزيز الصورة التي رسمها النظام عن الإسلام السياسي، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، امتدادا لما أنجزه النظام في هذا الملف من تصفية وإقصاء واعتقال وتشريد عناصرها، والربط المستمر بينها وبين الجماعات التكفيرية الإرهابية، والعزف على وتر الخراب الذي سببته الجماعة، ودور الزعيم البطل في إنقاذ مصر من هذه الجماعة التي تعاونت مع قوى الشر ضد الدولة المصرية. وهذا الملح ظاهر بقوة في الأعمال الدرامية، وقلما خلت أعمالها من هذه النبرة، سواء كانت هذه القضية هي أصل العمل ومحوره، أو من خلال الإشارات المبثوثة في المحتوى، وهي قطعا أعمال تعتمد على الأثر التراكمي، فمع مرور الوقت، سوف ينسى المصريون ما حدث، ولن يتذكروا إلا ما شاهدوه في هذه المسلسلات والأفلام. ومن خلال بوابة شيطنة الأبواب، تعمد دراما السيسي إلى إلحاق كل مظهر من مظاهر التدين بالإرهاب، حتى أنني أتذكر مشهدا في أحد المسلسلات تقول فيه الزوجة لزوجها الذي استقبل رجلا ذا لحية: (من إمتى تعرف الأشكال دي؟).
*ثالثا: خدمة توجهات النظام في تطوير الخطاب الديني وفق توجهاته، وهذا ملمح في غاية الخطورة، رغم أنه قد تخفى ملاحظته على كثير من المشاهدين، لأنه لا يتم تناوله بشكل مباشر، وإنما من خلال التأكيد على النموذج الإسلامي، الذي يهدف النظام لتعميمه، وهو إسلام القبور والأضرحة والأولياء والكرامات وحلقات الطرب التي يسمونها بالذكر، وهو نموذج انسحابي، لا يتعاطى مع أزمات ومشاكل الحياة، ويقتصر على السمو الروحي والتطهير الذاتي لسلوك الطريق إلى الله.
ورغم أن هذا التوجه موجود من قبل تولي السيسي، إلا أنه في عهده زادت وتيرة الإنتاج الدرامي لدعمه، فالإسلام الذي يُطرح في المسلسلات كافة، ويمثل الاعتدال والوسطية، هو التعلق بالأولياء وكراماتهم، والاستعانة والاستغاثة بهم وهم في قبورهم، وهو الإسلام الذي يعني بالمكنون ولا يكترث للجوارح والأعمال الظاهرة، وكل ذلك لوحظ في فيلم «صاحب المقام» من تأليف إبراهيم عيسى، الذي تناولتُه في مقالة سابقة.
هذه النسخة المستحدثة من المنهج الإسلامي، هي النموذج الذي يدعمه الغرب، وأوصت بدعمه المراكز البحثية الأمريكية التي تخدم صانع القرار، حتى أن الجيش الأمريكي، أنفق جزءا من ميزانيته لإعمار وبناء الأضرحة في أفغانستان عندما دخلها. تلك أبرز ملامح الدراما المصرية في عهد السيسي، التي يراد بها الطمس على أعين المصريين وصياغة أفكارهم وقناعاتهم ورؤيتهم للأحداث وفق ما يريده النظام، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.