الرئيسية / مقالات / كلمة في يوم الأم

كلمة في يوم الأم

أرى العالم البائس يتهيأ ليومٍ يُمنح فيه الآباء والأمهات بعض الامتنان، محاولة ساذجة لإراحة الضمير، إذ كيف لا يُحتفى بالوالدين طيلة العام، وفي كل حين؟ كيف تُحجب النظرات الحانية واللمسات الدافئة عامًا ويُطلق عقالها في يوم؟

الواقع مؤلم إلى حد بشع، لم يعد للوالدين تلك القدسية كما الماضي، ساد العقوق، وصار الأبناء كسادةِ آبائهم وأمهاتهم إلا من رحم ربي، وقليل ما هم.

أمِن العدل والإنصاف أن نتعامل مع هدية يوم الأم أو الأسرة على أنها كالإسلام يجب ما قبله؟ أبهدية ندفع فيها بعض العملات الورقية نجبر تقصيرنا طيلة العام؟

والله إن الوالدين في حياة المرء لمن أعظم نِعم المُنعم سبحانه، لا يعرف قيمتهما إلا من فقد أحدهما أو كلاهما، حينها يدرك أنه بات عاري الظهر، قد غاب عنه من كان يرسل أسهم الدعاء في الدياجير إلى السماء، غاب القلب الذي ماج وذاب بكل مشاعر الحب والخوف والشوق والحنان من أجل فلذة الكبد، غابت الأعين الساهرة التي دأبت على أن تطبق الأجفان على مرأى ابن البطن وابن القلب وابن العمر.

آباؤنا وأمهاتنا يعانون من الحرمان، نعم الحرمان من بعض الامتنان، بعض التقدير، بعض العرفان بالجميل، يتطلعون إلى أن يستدفئوا به في مناخ آخر العمر القاسي، إنهم لا يصارحوننا بحاجتهم إلى الاهتمام، ربما كان الكبرياء يمنعهم، أو ربما قد اعتادوا البذل والعطاء بدون مقابل فالتزَموا ما ألفوه.

إنهم يروون بلا توقف، يمنحون بغير حساب، لا يعيرون اهتمامًا إلا لبتلّة تتفتح، وجذرٍ يضرب كل يوم في الأعماق، حصادهم المرجو أن يباهو بنا النجوم في جيدِ السماء.

إنهم الذين جرى بهم العمر وأخذتهم الأيام وانسلت من بين أيديهم في خضم رعاية أبنائهم، لا ينتبهون إلى ما سُلِب منهم، ولا إلى ما نزفوا.

لم ينتبهوا يوما إلى ما نقص من أعمارهم، كل ما كان يجذب انتباههم: كم زاد من أعمارنا.
إنهم لا يطالبوننا بمعرفة ماهية التضحيات، بل لا يسألوننا مقابل إسرافهم في العطاء، لا يكلفوننا حتى مشقة الاستماع إلى: كم كابدوا، وكم يكابدون.

فقط يريدون بعض الامتنان، بعضًا من نظرات الحنان التي كانوا يغدقونها، شيئًا من اللهفة التي كانت تصدر منهم عن غير تكلف، قليلا من الاهتمام الذي كان لهم بنا ديدنًا.

ربما لا أستطيع أن أحدثكم عن الأم، فقد خلت ذاكرة شعوري من هذه التجربة، ولم أتذوق طعم أن أكون ابنةً لأم، رغم ما أحاط بي من نساء أغدقن عليّ من حنان ورعاية أبرزهم زوجة أبي حفظها الله، لكنني أستطيع أن أتحدث إليك بوضوح عن أبي.

أبي، هو ذلك الجذع الذي أسند إليه ظهري، يلفني بأغصانه، يظللني بأوراقه، يطعمني ثماره، وفي برد الليالي القاسية لا يتوانى عن حرق بعضه ليمنحني الدفء، ذلكم هو أبي.

أبي، هو ذلك الإنسان الوحيد في الأرض، الذي أجد الأمان في سماع صوت سعاله، نعم سعاله في الحياة كافٍ ليؤنسني، ذلكم هو أبي.

أبي، يعني دعوة تسيل على شفتين، أراها بجلاء منذ أن تخرج من ذلك الموضع الغائر من قلبه، فيثلج صدري، ويشعرني بأنني سأنتصر في معارك الحياة، ذلكم هو أبي.

أبي، هو ذلك الإنسان الذي حبسته الحياة في صورة فارسي الأول، حتى وهو يحني ظهره هرمًا، حتى وهو يستسلم للشيب الذي غزاه، حتى وهو يقرب الكتاب من عينيه ليهزم ضعف بصره، ذلكم هو أبي.

لو كتبت حتى يملّني القلم عن أبي، فلن أوفيه شيئًا مما يستحقه، فأسأل الله أن يوفقني لبرّه، وأن يوفقنا جميعًا إلى بر الوالدين، والقيام بحقهما، والسلام على كل أب وأم في الحياة وبعد الممات.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

الدراما الرمضانية بين الإخوان والحشاشين

عودتنا الدراما العربية في رمضان، على إثارتها للجدل خاصة في ما يتعلق بشؤون الحركات والجماعات …

تعليق واحد

  1. كم أنت رائعة، كلماتك لامست مشاعري، وهزت وجداني، فعلا لن نُوفّي حق والدينا مهما بذلنا لهما من العطاء. فقد مر على وفاة والدتي بضعاً من الشهور لم تتجاوز العام، شعرت فيها بفراغ رغم أنها كانت مسنة وطريحة الفراش، ولكن وجودها كان يشعرني بالأمان، وكلماتها كانت بسلم يرفع عني الهموم والأحزان. والدتي هي حبي ووجداني وكل روحي.
    أعذر تطفلي على مقالتك التي ألفيتها تعكس عما عجزت أن أعبر عنه، فتجرأتُ أن أكتب هذه الكلمات رغماً عن كبريائي. فأنتٍ تتكسر الأقلامُ وتنحني الكتبُ إجلالاً وتعظيماً أمام كلماتك هذه الساحرة.
    مقالك رشيق ورائع صدقاً سحر قلبي، ودفعني أن أقرأه لثلاثة مرات، وساستزيد من معينه الفياض مراتٍ ومرات.
    ستظلين دائما وأبداً تاجٌ على رأسي، وسيدتي التي أعتز بها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *