الشيخ الشعراوي… فضائله ينشرها الحسود

حدثني أبي حديث الوالد الذي يستدعي ذكريات الزمن الجميل أمام ابنته، فأخبرني بتلك الأيام التي كانوا يتحلقون فيها لسماع الإذاعة، قبل أن تعرف أعينهم تلك الشاشة الصغيرة، وكان من الطبيعي أن تعلق في أذهانهم المواد المسموعة التي يتعرضون لها، إلا أن حديثًا عذبًا شيّقًا لعالِمٍ مصري لم يكونوا على علم به – تنقل الإذاعة حلقات برنامجه – قد استولى على القلوب، «نور على نور».
وكان من السهل علينا متابعة تلك الخواطر الإيمانية حول القرآن لذلك الشيخ، الذي لم يكن سوى إمام الدعاة محمد متولي الشعراوي، وذلك بعد دخول عصر الفضائيات والشبكة العنكبوتية.
الشعراوي رمز من رموز الأزهر، تكاد الأمة تجمع عليه قبولًا، عدا بعض الاتجاهات السلفية، وأحدث في الجماهير العربية – لا المصرية فحسب – نقلة كبيرة في التفاعل مع تفسير القرآن الكريم، الذي كان عبارة عن خواطر إيمانية يربطها دائما بالواقع بأسلوب بليغ سلسل شيق، ومعروف عن أهل مصر في الماضي، أن الاستماع إلى حديث الشعراوي عقب صلاة الجمعة هو عنصر أساس في برنامجهم في ذلك اليوم. ومع ما للشيخ، رحمه الله، من قبول واسع لدى أبناء وطنه خاصة، والعالم الإسلامي بصفة عامة، إلا أنه لم يسلم من الطعن والتشويه، كان آخر حلقات هذا الطعن خروج مذيعة شابة هي نجلة الفنان المصري شريف منير على تويتر، متهمة الشعراوي بالتطرف. وإحقاقًا للحق، قامت المذيعة الشابة بالاعتذار بعد هذه الزوبعة التي أحدثتها تغريداتها، وأعربت عن أسفها وأنها أساءت التعبير ولم تقصد تقييم الشيخ الشعراوي، وهذا أمر جيد ينهي الموضوع لو كان بلا توابع وبلا امتداد.
بيد أن البعض راق له الهجوم على الشعراوي، وصار ينتصر لما تراجعت عنه المذيعة الشابة، منهم أستاذ في القانون الدولي وهو الدكتور فؤاد عبد المنعم رياض، الذي انتقد ردة فعل الجماهير الغاضبة بسبب ما وصفه بإعمال العقل المخالف للرواسب الفكرية المسيطرة على الشعب المصري، وأن هذه الجماهير ضحايا غسيل المخ. وتبعه في ذلك النهج عدد من الصحافيين، بل سارع المنتج السينمائي مدحت العدل إلى وصف ردة فعل الجماهير بالإرهاب الفكري، مُذيلا اعتراضه بعبارة «استقيموا ولا تعبدوا أصناما تصنعونها»، ما يؤكد أنه اتجاه عام في مصر للنيل من رموز الدين بدعوى التجديد ومحاربة التطرف والانغلاق الفكري. وقطعا الشيخ الشعراوي كغيره من العلماء، له ما له وعليه ما عليه، وليس معصومًا، وآراؤه الاجتهادية ليست قرآنا، ولكن المشكلة تكمن في تقييم رمز من الرموز العلمية من قِبل غير أهل التخصص، فليس لديهم أي أدوات لتقييم علم الشيخ، سوى ما ارتضته عقولهم وأهواؤهم، ولو أن أحدا من الناس لم يدرس الطب وانتقد طبيبًا لكان أول سؤال يُوجه إليه: هل أنت طبيب حتى تقيمه؟ ولو تكلم أحدهم في الكيمياء أو الفيزياء أو الفلك، وهو لم يدرس هذه العلوم لاعترض الناس عليه، لأنه ببساطة لا يملك الميزان الذي يقيم به صاحب التخصص، فلماذا يعطي هؤلاء لأنفسهم الحق في تفنيد الآراء الفقهية للشيخ الشعراوي، وهم ليسوا من ذوي العلم، فلو أن ذلك صدر عن مثله من العلماء بموضوعية لكان كلامه معتبرًا، فليس هناك مجال للقول بأن الاعتراض على هجوم المذيعة ضربٌ من تقديس الرجال وصناعة الأصنام وإضفاء صبغة كهنوتية على العلماء.

أكثر ما أهتم له في هذا الطرح تعاظم موجة تحطيم الرموز بأقلام وألسنة دعاة التنوير المزعوم، الذين ليس لمسلكهم نصيب من مسماهم، حيث دأبوا على محاولات تجريد الإسلام من محتواه، تارة بالدعوة لإقصاء السنة النبوية والاكتفاء بالقرآن، وتارة بالطعن في البخاري، وتارة مهاجمة الاجتهاد في الفقه الإسلامي والمطالبة بإغلاق بابه، وتارة بتشويه علماء الأمة قديمًا وحديثًا، يجدون في دعاة الإسلام دون غيرهم مادة خصبة لممارسة أفكارهم الظلامية. وبيت القصيد في هذه السطور، أن هذا الاتجاه تعاظم عبر المنابر الإعلامية، متكئًا على توجهات نظام عبد الفتاح السيسي، الذي ترك شؤون تحسين حالة المواطن البسيط، وضيع بلاده في حقها من ماء النيل، وأودع الاقتصاد في يد العسكر، وملأ سجونه بمعتقلي الرأي، وتفرغ لتفعيل أكذوبة تجديد الخطاب الديني، الذي لا يعني سوى التماهي مع التوجهات الغربية، فلذلك تندفع آلته الإعلامية باتجاه النيل من الثوابت وتحطيم الرموز، بدعوى محاربة التطرف. والدليل على أن ذلك سعيٌ مُمنهج لسلخ المصريين من هويتهم الدينية، أن هذه الزمرة التنويرية كانت في الماضي تجعل من الجماعات الإسلامية ورموزها مجال نشاطها التحطيمي، تحت مظلة حماية الشعب من التطرف الفكري، وتدعو الجميع إلى اعتماد الأزهر مرجعية علمية.
وبعد أن تم المراد واستئصل معظم الدعاة المستقلين وتم تفكيك وإضعاف فصائل التيار الإسلامي، شهدنا حملة شعواء شنها إعلاميو النظام والنخب التغريبية والتنويرية على الأزهر، واتهامه بالتطرف في فتاواه ومناهجه الدراسية، وتعالت الأصوات المطالبة بتطوير الخطاب الديني للأزهر على النحو الذي أراده الزعيم المبجل. فالقضية ليست مواجهة التطرف، بل زعزعة الثوابت والطعن في حملة الشريعة، وأكرر أنه لا عصمة لعالم من العلماء، وجميعهم ليسوا فوق مستوى النقد، لكن لا يسوغ لأحد مراجعتهم وتخطئتهم إلا إذا كان من أهل العلم ممتلكا لأدوات التقييم، وإلا فكل الرموز من كل صنعة وفن ومجال ليس علماء الشريعة وحدهم، سوف يكونون صرعى حملات التشويه والطعن، فكما قال الحافظ ابن حجر: «إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب». حتى متى نحطم الرموز، في الوقت الذي يتكلف الغرب تبجيل قادته ورموزه، حتى لو كانوا أصحاب سيرة ذاتية ملطخة بالدماء كما هو الحال مع نابليون بونابرت. الشيخ الشعراوي لم يتأذّ من الطعن، بل تزداد رقعة محبيه والمنافحين عنه، إذ هبّ الناس منتقدين تشويه هذا الرمز ورميه بالتطرف، وكأنه من عناه الشاعر أبو تمام بقوله:
وإِذَا أَرادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضيلَةٍ … طويتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

الشارع الأمريكي يؤثر على القرار السياسي… الوهم الأكبر

لو كان الوهم يُعَبّأ في قوارير لبيعها، حتما كنا سنقرأ على ملصقاتها عبارة: صنع في …

2 تعليقات

  1. مقالة رائعة سلم قلمك وحفظك استاذة احسان الله يعزك ويبارك فيكي

  2. محمد صلاح آدم

    بارك الله فيك وجازاك خيرا وأكثر الله من امثالك في وقت تحتاج فيه الأمة الإسلامية الكثير من امثالك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *