“الشبعان يثرد للجوعان حروف”، ذلك المثل ينطبق أكثر ما ينطبق الآن على الوضع في بلدي الأردن، في تلك الأزمة التي يقف فيها المعلم المطحون للمطالبة بحقوقه، ورفع الظلم الاجتماعي عنه، وتوفير حياة كريمة تليق برسالته الكبرى، بينما تثار من حوله عواصف الإجحاف تطالبه بالصبر على الجوع وقلة حال اليد.
إنها لدعوة خبيثة لا يطلقها سوى الثلة التي تمتلك الثروات وتعيش في رغد من العيش، فماذا عليهم لو نصحوا الجياع والمهمشين بالصبر، لن يتكلفوا عناء سوى تحريك ألسنتهم بالحروف الدنيئة عبر مخارج مُشوّهة.
هي دعوة خبيثة سواءً أطلقتها الحكومة أو أبواقها الإعلامية بل وحتى الدينية، رحم الله المفكر محمد الغزالي إذ قال: “كل دعوة تُحبّب الفقر إلى الناس أو تُرضيهم بالدون من المعيشة، أو تُقنعهم بالهُون في الحياة، أو تُصبّرهم على قبول البخس والرضا بالدنيّة، هي دعوة فاجرة يُراد بها التمكين للظلم الاجتماعي وإرهاق الجماهير الكادحة في خدمة فرد أو أفراد”.
عارٌ على الحكومة أن تتجاهل مطالب هؤلاء المعلمين وتقف في وجوههم، وهم الذين لم يفعلوا سوى الصراخ بواقع ما هُم عليه، وبالإشارة الى جراحهم وأوجاعهم، #نجوعمعاأونشبعمعا، فلا يعقل أن يُطالبوا بشد الأحزمة وحدهم، بينما يتقاضى غيرهم من المستشارين والوزراء والنواب وسكرتيراتهم ومُرافقيهم ما يصل إلى مائة ضعف ما يحصل عليه المعلم البائس او حتى العسكري والدركي والممرض والطبيب ومختلف الموظفين في عدد كبير من المؤسسات الحكومية.
#نجوع_معا_او_نشبع_معا، هي العبارة التي ستُحيي حقيقة أماتها الناس وقد أكد عليها الدين الإسلامي ودعمتها كل الأديان ودساتير الأرض: (العدل أساس الملك).
لطالما تعالت الصيحات وقُرعت أجراس الإنذار: أكرموا المعلم قبل أن يهينكم الجهل، وكثيرا ما صرخ المخلصون: انظروا إلى الدول التي مرت بطفرات اقتصادية نقلتها نقلة بعيدة ماذا فعلت بالنهوض بالمعلم والتعليم وكان ذلك تأشيرة العبور إلى الازدهار،.
لكن هذه الصرخات لم تلق آذانا صاغية، فكأن قومنا هم من عناهم الشاعر:
لَقَدْ أسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيّاً ** ولكنْ لا حياةَ لمنْ تُنادي
الحكومة تتعامل بغطرسة شديدة مع الأزمة، وكل إجراءاتها تتجه للتصعيد ونذر النزاعات الاجتماعية.
لجأت بعدما فشلت المفاوضات إلى إصدار بيان من خلال ديوان التشريع والرأي نزعت فيه الصفة الشرعية عن الإضراب…..
تهدد المعلمين المضربين بفقد وظائفهم……
اعتقال بعض المعلمين……..
دخول بعض ضباط الشرطة لعدد من المدارس للضغط على المعلمين لفك الإضراب…….
توجيه أولياء أمور إلى إرسال أبنائهم إلى المدارس، عبر رسائل نصية……..
يضاف إلى ذلك محاولة (أخونة) الحراك من خلال توجيه الاتهام إلى جماعة الإخوان المسلمين بالوقوف وراء الإضراب……
فهل هذه إجراءات لحل الأزمة أم إشعال فتيل أزمات أخرى وسكب الزيت على النار؟
القضية يا قوم لم تعد تتعلق بحق للمعلم نسانده في الحصول عليه، الأمر تعدى هذا التوصيف، فالقضية صارت مشكلة طبقية.
نعم هي أزمة تتعلق بالطبقة المتوسطة التي تآكلت واتخذت مكانها بين الطبقة الفقيرة، تلك الطبقة المتوسطة التي تضم المعلمين والجنود والموظفين والمزارعين والعمال ومن لا يتجاوز راتبه الذي ينفق منه على خمسة أبناء او أكثر ( ثمن قارورة عطر في حقيبة سكرتيرة او مرافقة الوزير )، هو أكبر دليل على فشل سياسات الدولة العامة، والتي لا يمكن وصفها بالنجاح ما لم تحقق الانحسار في الطبقة الفقيرة والنمو في الطبقة الوسطى.
ومن أبرز أسباب تآكل الطبقة المتوسطة في المجتمع الأردني انحدار التعليم، حين لا تراعي الدولة أحوال المعلم المعيشية، فيتجه إلى التركيز على الدروس الخاصة ويفقد انتماءه للعملية التعليمية العامة، ويكون حضوره في المدرسة روتينا ليتسلم راتبه، حينها يلجأ أولياء الأمور من الطبقة الوسطى لتعليم أبنائهم في المدارس الخاصة ما يمثل عبئًا عليها، ومن ثم تقل القوة الشرائية للأسرة والتي تُصنف بمقتضاها في طبقة ما، لدى بعض الاتجاهات الاقتصادية.
كثير من أبناء هذه الطبقة أصبحوا من الطبقة الفقيرة، وذلك الوضع آخذ في التنامي والتزايد بصورة واضحة ومُلفتة، نظرًا لاستشراء الفساد وتوغل الأجهزة الأمنية في الحياة العامة” ولو بنعومة لم تعد تنطلي على المتابعين آثار مخالبها”، وانفلات وكاء المحسوبيات والرشوة والفساد الأخلاقي والمالي.
وفي مقابل ذلك، هناك طبقة تمثل أقلية في الدولة من كبار السياسيين وأصدقائهم التجار ورجال الأعمال المُتنفذين، والضباط برُتب عالية ايضا الى حين إحالتهم الى التقاعد وتهميشهم كالبقية ليتحولوا بعدها (مالم يستغلوا مناصبهم) الى معارضين ضد النهج الحكومات، هؤلاء هم من بيدهم ثروات البلاد، وهم مع ذلك يقفون في وجه تحقيق العدالة الاجتماعية، ويعزفون على ذات الوتر الذي تهواه الحكومة من الإصرار على تهميش الطبقات الأخرى وعدم الاكتراث لها.
إننا بصدد تعميق للفجوة بين الطبقات إن لم تتم إصلاحات اقتصادية ومجتمعية وتتحقق العدالة الاجتماعية، وهذا من شأنه التأثير على الوضع الأمني الداخلي والُّلحمة بين مختلف المنابت والأصول بلكناتها ومظاهرها ومستواها التعليمي او المعيشي.
الحكومة في حال التجاوب مع مطالب المعلمين العادلة المشروعة، فإنها بذلك لا تحل أزمة فئوية فحسب، وإنما تحل أزمة مجتمعية ضخمة وتحد من طوفان الطبقية التي تهدد الدولة، نسأل الله تعالى أن ينعم على وطننا الأردن بالاستقرار والرخاء وأن يُطهرها من الفاسدين والمُتكسبين واللصوص ومن اختارهم وقرّبهم وجعلهم رموزا للوطن، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.