لقد كانت الساعات الأخيرة في حياة الفاروق عامرة بالهموم التي تنبئ عن معدن تلك الشخصية وعظمها.
هموم في لحظات التوديع، تضعك أمام عملاقٍ فذّ، امتلأت صفحات حياته بالإنجازات العظيمة والمواقف الفريدة، عاش وهَمُّه نصرة الإسلام وخدمة المسلمين ونشر العدل بينهم، لكنه حتى في نهاية أيامه لم يتجرد من تلك الهموم العمرية العظيمة.
لقد كان عمر الفاروق أمير أعظم دولة في التاريخ، مع كل ما اغتنمه المسلمون في فتوحاتهم، كان يعاني الفقر، حتى أنه كان يرقع ثيابه، وهو أمير المؤمنين، فمن يصدق أن صاحب هذا المنصب كان عليه ديْن لم يُوفه بعد، وخشي أن يموت دون قضاء هذا الدين؟
الله أكبر يا أمير المؤمنين، حاكم أعظم دولة عليه دين، فهل يشك عاقل في أن عمر الفاروق كانت يداه ناصعتين لم تتلوثا بأخذ مال المسلمين؟
فأمير المؤمنين الذي كان على خزائن الأرض مات وفي ذمته ستةٌ وثمانون ألفاً، فقال لابنه عبد الله: انظر ديني، فإن وفى فيه مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، وهم البطن الذي ينتسب إليه عمر، وإلا فسل في قريش، وهي قبيلته، ولا تعدهم إلى غيرهم.
وكان من أعظم الهموم العمرية في تلك اللحظات الحرجة: من يكون له أمر المسلمين من بعده؟ هل يفعل كما فعل رسول الله إذ لم يستخلف أحدًا بعينه وترك الأمر للمسلمين والذين اختاروا أبا بكر الصديق؟ أم يفعل كما فعل أبو بكر عندما استخلف عمر بن الخطاب؟
فقال عمر(إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، رسول الله) رواه البخاري ومسلم.
لكنه مع ذلك أشار عليهم بخير من يحمل هذا الأمر، وهم الستة الذين توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.
ومن تلك الهموم العمرية في اللحظات الأخيرة من حياة الفاروق: أين يدفن عمر؟ لقد كان مغتمًا خشية ألا يدفن مع صاحبيه، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهي الصحبة في الحياة والصحبة في الممات، كان ذلك الأمر يشغل باله لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قد دفنا في حجرة عائشة رضي الله عنها، فأنى له أن تتحقق تلك الأمنية؟ يريد أن ينعم برفقة صاحبيه تحت التراب كما كان ينعم بها فوق التراب.
ومن أجل ذلك قال لولده: (انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه فقالت كنت أريده لنفسي ولأوثرنَّ به اليوم على نفسي) صحيح البخاري.
وكان عمر ممددًا ينتظر على أحر من الجمر ما يسفر عنه اللقاء، هل تتحقق أمنيته أم لا؟ فما إن جاء عبد الله بن عمر، حتى قال الفاروق: (ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال ما لديك قال الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت قال الحمد لله ما كان من شيء أهم إلي من ذلك) رواه البخاري.
لكن عمر الفاروق الأواب الورع، خشي أن يكون حصّل أمنية بسيف الحياء من عائشة، فأوصى قائلًا: (فإذا أنا قضيت فاحملوني ثم سلم فقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين) رواه البخاري.
وصدق من قال “الهموم بقدر الهمم”، فذاك رجل طاول الثريا في همته، ذلك لأنه جعل الآخرة أكبر همه، وانصرف عزمه لإعمار آخرته بدنياه.
رضي الله عنك يا فاروق الأمة يا أمير المؤمنين، لقد علمتنا كيف يكون الهم في الحياة، وكيف يكون الهم عند الممات، اللهم ألحقنا بالأحبة محمد وحزبه، وارزقنا رفقتهم في الجنان، واحشرنا في زمرتهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الوسومعمر بن الخطاب وصية عمر
كلام رائع في حق الفاروق عمر رضي الله عنه فقد كان امه في حياته وفي مماته نسأل الله ان يبعث لنا عمرا جديد لتصحيح اوصاعنا