الرئيسية / مقالات / أهل العلم والدعوة في الدراما العربية

أهل العلم والدعوة في الدراما العربية

حار قابيل كيف يواري جثمان أخيه هابيل، بعث الله تعالى غرابا ينبش الأرض كيف يواري غرابا آخر قد أجهز عليه، فما كان من الأخ القاتل إلا أن حاكى هذا الأداء ودفن أخاه في باطن الأرض، كما قال الله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31].
وهكذا تبرز القصة ميل الإنسان بطبيعته إلى المحاكاة، ومن هنا نفهم انسجام الاتجاهات النفسية للبشر مع الدراما المعروضة من أفلام ومسلسلات ومسرحيات، لأن الدراما ليست سوى قصة مروية بالمحاكاة عن طريق الفعل والحركة والإيحاءات النفسية.
الدراما لها قدرة غريبة على تشكيل الوعي والانطباع لدى المشاهد، بأثيرها التراكمي في مخاطبة العاطفة، ومن ثم قد يعدل المشاهد العربي عما يراه في الواقع من حقائق، إلى ما تجسده الدراما من حقائق أخرى مغايرة، وتكون لها الغلبة في تشكيل انطباعاته ونظرته للأمور، خاصة مع غياب الوعي الديني والثقافي.
ونظرا لأن الأعمال الدرامية كأحد الأعمدة والأسس التي يقوم عليها الإعلام المرئي، تخضع في معظم البلدان العربية أو كلها لأنظمة الحكم، والعلاقة بين السلطة والمجتمع بسائر فئاته، فإنه يتفرع عن تلك الحقيقة كيفية التناول الدرامي لفئة ما أو قطاع ما في ذلك المجتمع.
ومن الفئات المجتمعية التي تناولتها الدراما العربية بصورة تستحق الدراسة، فئة العلماء والدعاة والملتزمين، تلك الفئة التي لا يخفى على ذي بصر مدى تأثيرها في المجتمع، وقدرتها على التوجيه والحشد نحو قضايا المجتمع بتلك الخلفية الدينية التي تعبر عن هوية المجتمع العربي.
ولا يخفى على متابع للدراما العربية أنها تعمل على تشويه صورة العلماء والدعاة والنيل والسخرية منهم، وعرضهم في قوالب بشعة تنفر الناس منهم.
فالشيخ أو العالم في الدراما جشع يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ويتخذه وسيلة للتكسب…
أو هو الرجل المنفصل عن الواقع والعاجز عن تقديم حلول عملية للناس والاكتفاء بالعبادة ومطالبتهم بتقوى الله….
أو هو زير النساء الذي يظهر التقوى والورع ثم يطالع خلسة أجساد النساء ويقيم علاقاته المحرمة في الخفاء..
وهو في بعضها شيخ أبله يتبرك به الناس لأنهم كما يدعون “فيه شيء لله” فيمثل صورة التدين بذلك البله والسفه.
أو هو الشيخ سيء الخلق غليظ الطباع المغتاب النمام المتطاول على الأعراض رغم ظهوره بمظهر العلماء من لحية وعمامة ونحو ذلك.
وهو الشيخ المتملق للسلطان وذوي النفوذ ويفصل لهم الفتاوى الضالة المضلة، ويحل لهم الحرام….
وهو الإرهابي أو المحرض على التطرف ومنتجه، وصاحب فتاوى إباحة الدماء المعصومة…
إن أسباب التشويه المتعمد من قبل الدراما العربية لأهل العلم متعددة، أبرزها أن النظرية السلطوية هي السائدة في المجتمعات العربية، فوسائل الإعلام غالبا تعبر عن حكومة الدولة التابعة لها، وتروج لسياساتها، لذا لا تخرج الأعمال الدرامية في الوطن العربي عن مراقبة الحكومات، فتمنع ما يراه متعارضا مع توجهاتها وسياساتها، ففي مصر باعتبارها رائدة الدراما في الوطن العربي، منع الساسة وصناع القرار من قبل عدة أعمال درامية من العرض، كفيلم “يوميات نائب في الأرياف” عام 1968، وفيلم “الكرنك” عام 1972، وفيلم “احنا بتوع الأتوبيس” عام 1979، ولم يتم عرضها إلا بعد وقت من التغيرات السياسية في مصر.
ومن أبرز هذه الأسباب الدافعة لتشويه العلماء في الدراما العربية هي سيطرة العلمانية على الفن وصناعة السينما، يهدفون بذلك إلى تشويه صورة العلماء والدعاة أصحاب التأثير لأنهم ينادون بشمولية الإسلام، فيصطدمون بالعلمانيين الذين يريدون فصل الدين عن شؤون الحياة وحصره في مجموعة من القيم الروحية، لذلك ترى جل الأعمال الدرامية خاصة في الوقت الحالي تنبني على تحطيم الرموز وهدم الشخصية الإسلامية.
لقد كان لهذا التشويه الممنهج الذي اتبعه القائمون على الأعمال الدرامية مخرجون ومنتجون وممثلون، في تشويه صورة شخصية العالم أو الداعية أو الشخص الملتزم، آثار وخيمة عمت المجتمع بأسره، وغيرت الصبغة المجتمعية، ولعل من أبرز هذه النتائج:
أولًا: تحطيم القدوات
فلا شك أن لكل مجتمع ولكل أمة قدواتها التي تجد مكانها في قلوبهم، وتكون النموذج البراق الذي يحتذى به، ويتطلع النشء إلى الارتقاء لمنازل أولئك القدوات، وفي المجتمع الإسلامي تبرز أهمية رجال العلم والدعوة كرموز، انطلاقا من كون الإسلام يمثل هوية ذلك المجتمع.
ومما يؤسف له أن نرى الغرب يبجل رموزا قد بزغوا في جانب واحد، بينما لهم وجوه عدة يندى لها الجبين، ويخرجون بها عن مصاف القدوات الحقيقيين، فعلى سبيل المثال يبجل الشعب الفرنسي نابليون بونابرت القائد العسكري الفذ، ويعتبرونه أحد أبرز رموزهم التاريخية، ويغضون الطرف عن وجهه الوحشي وإراقته للدماء.
وفي المقابل نرى الدراما كمجال يعكس وجه نبض المجتمع، تشوه المنتصبين كقدوات من أهل العلم والدعوة، وتلبسهم ثياب الجهل والنفاق والانحطاط والازدواجية والإرهاب كما أسلفنا، فماذا كانت النتيجة؟
كما يقول الدكتور محمد موسى الشريف: “لقد توارت عظمة أولئك القدوات في النفوس مع ذلك الإصرار على النيل منهم، ما أدى إلى عزوف الأجيال وانصرافها عن اتباعهم.واهتزت ثقة الناس بحملة الشريعة فلم يعودوا يثقون بأحد منهم وتقزمت صورة المبلغين رسالة الله في أعين كثير من الناس، ونتج عن ذلك بحث الناس عن قدوات آخرين قد لا يكونوا من أهل الصلاح، بل أكثرهم من السفهاء والرويبضة”.
ثانيا: الاستخفاف بشعائر الإسلام:
ولقد تجلى هذا الأثر بوضوح، فصرنا نسمع ونرى من يتطاول على اللحية التي هي من سنن الأنبياء والمرسلين، وأمر بإعفائها سيد الثقلين محمد رسول الله صلى الله وسلم: (وفروا اللحى وأحفوا الشوارب) ، فتارة يستهزئون بها ويسمونها (ليف) أو (مكنسة) إلى غير ذلك من أوجه الاستخفاف.
ولا يعلم المشاهدون المغترون أن ذلك كيد أريد بهم، وأمر دبر بليل من قبل الصهاينة الذين أرادوا أن يفقد أهل العلم والدعوة والرموز الإسلامية مكانتهم في قلوب الناس حتى ينسلخوا في النهاية من هويتهم.
ففي بروتوكلات حكماء صهيون: “قد عنينا عناية عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين من الأممين (غير اليهود) في أعين الناس، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤودا في طريقنا، وإن نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يوما فيوما”.
ثالثا: تجرئة المتهورين على أهل العلم والدعوة
فالمجتمع لا ريب يعج بالشخصيات المتهورة المندفعة، وعندما يتعرض هؤلاء للمواد التي تنال من أهل العلم والدعوة والالتزام، فإنهم يندفعون بهذا التهور لإيذاء أهل العلم، حتى أنهم قد يجدون في ذلك ذواتهم، فلئن كان العصاة والمنحرفون كانوا في الماضي يرون تقصيرهم كلما نظروا إلى الدعاء والعلماء، إلا أنهم صاروا اليوم ينشدون ضالتهم في رؤية مثالب هذه الفئة في الأعمال الدرامية، فيريحهم ذلك من عناء الشعور بالتقصير، ويرون أنهم على الجادة طالما كان العلماء والدعاة بهذا السفة والسوء، يؤول بهم الأمر إلى التعرض لهم بالإيذاء.
ومن ناحية أخرى يجرئ هذا التناول السلبي أهل السطوة والنفوذ للتنكيل بأهل العلم والدعوة، تحت مسمى مكافحة الإرهاب والتطرف، حتى صارت الأعمال الدرامية وسيلة تدل على منطق الدولة وتبرره في أن الوسيلة الناجحة للتعامل مع هذه الفئة هو الحسم الأمني، فهي لا شك إن لم تقوم بإيذاء الشخصية الإسلامية بصورة مباشرة لكنها تعين على ذلك.
ورحم الله عبد الله بن عكيم عندما قال: “لا أعين على دم خليفة أبدا بعد عثمان، فقيل له: يا أبا معبد، أو أعنت على دمه؟ قال: إني لأرى ذكر مساوئ الرجل عونا على دمه”.
خامسًا: حرمان الاستفادة من العلماء والدعاة
لأن التطاول على أهل العلم والدعوة والالتزام، يصنع حاجزا نفسيا بين المشاهد وبين تلك الشخصيات، ومن ثم فلا يقرأ لهم ولا يستمع إلى نصائحهم ومواعظهم، ومن ثم يفوته الاستفادة مما لديهم من الخير، ويصير عرضة لتلاعب المغرضين وأدعياء الإصلاح، والوقوع فريسة للأفكار الدخيلة، فلا عجب إذن أن يشرأب الإلحاد من جديد في مجتمعاتنا الإسلامية مع عزوف الشباب عن أهل العلم والدعوة نتيجة الخواء العلمي الذي تفرضه القطيعة مع تلك الفئة المؤثرة في المجتمع.
سادسا: تفكيك اللحمة المجتمعية
فأهل العلم والدعوة والملتزمون بصفة عامة يمثلون شريحة كبيرة وقطاعا واسعا في المجتمع، وجزء أساس في تكوينه وتركيبته، وتشويه الرموز الدينية في الدراما العربية تخلق وتعمق من الهوة بينها وبين فئات الشعب الأخرى.
والمتأمل في سور القرآن وآياته يدرك مدى حرص الإسلام على اللحمة الداخلية للمجتمع، وفي سبيل الوصول إلى ذلك اشتملت سورة الحجرات على سبيل المثال، على مجموعة من المنهيات من شأنها خلخلة الأواصر المجتمعية.
فمن ذلك النهي عن قبول خبر الفساق عن الآخرين، وضرورة التثبت قبل إصدار الأحكام، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]
ومنه النهي عن السخرية والاستهزاء بالآخرين وهو ما تطفح به الأعمال الدرامية، وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ}.
وكل هذه الأمور وغيرها التي تفسد العلاقات الاجتماعية وتفكك لحمة المجتمع تزخر بها الدراما بما لا يمكن أن تخطئه عين.
تلك هي مخاطر التناول الرديء لأهل العلم من قبل الدراما العربية، ولذا يحذر المشاهد من هذه الأعمال الهدامة، ولا يخلط الحابل بالنابل، ولا يعمم الأفكار والتوجهات، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

تلك عاقبة الصمود

سأل أحدهُم الفارسَ العربي الشهير عنترة بن شداد عن سر شجاعته وقدرته على هزيمة الرجال، …

6 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
    مقالة حساسة جدا، أبدعتي في سرد الحقائق التي تُخفى على الكثير من عاوم الناس. هذه حقيقة لا يختلف عليها كل عاقل مدرك لمآرب أعداء الأمة. لاسيما أن أصحاب دور السينما و التلفزة يلهثون خلف شركات الدعاية و الإعلان لما تقدمه من عطاء سخي يسيل له اللعاب. وفي طبيعة الحال أن هذه الشركات ملك كبار الصهاينة ولهم شروط لمن يتعامل معهم، أولها نشر الموبغات والفجور حتى يُبقوا المشاهد عبدا لمنتجاتهم ومبتغاهم خدمة لأهدافهم الإستراتيجية الهدامة، وهذا دأب اليهود منذ عهدتهم البشرية.
    جزاك الله كل الخير على هذه المقالة الطيبة والجميلة في كلماتها التي شقت جيوب قلبي ونحتت في أجدره.

  2. رائع فتح الله عليك

  3. الله يجزيك الخير ايتها الحرة الأصيلة

  4. هذا في مصر وفي بلدان عربية أخرى يختلف الامر كليا فالدرامة تتجه الى اصباغ المجتمع صبغة ظاهرها ثقافي محلي وفي الباطن تحقق أجندة صهيونية لفصل المنطقة عن الامة بأكملها مع فراغ علمي وثقافي ذو أصالة رهيب .

  5. مقالٌ رآئع كروعتِگ أستاذتي،،،
    ذكرني هذا العنوان بمسلسل يعرض هُنا في اليمن،،،و نجوم هذا المسلسل
    فنانين كانوا يوماً ما من قادة الإصلاح المجتمعي في المسرح عملوا لأكثر من عقد ونصف كنجوم للمسرح الهادف الذي يبني الفرد ويوعيه ويهذب سلوكة عاملين خلال هذه الفترة على إثارة القضايا الكبرى التي تهم الأمة كقضية فلسطين والغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسگ،،،وغيرها، ،،،لكن عندما عملوا في التلفزيون نرى بأن الأعمال التي يعملونها في وآدي والواقع الذي نعيشه في وآدي آخر مع انهم يعملون في قنوات محسوبة على أصحاب التيار الأصلاحي،،إلى الآن لم ينتج أي مسلسل يجسد ماحصل ويحصل في دول مايسمى باالربيع العربي،،،،،،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *