الرئيسية / مقالات / تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى

تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى

كنا أيام الطفولة ندفع النوم حتى لا تستسلم له أعيننا، فلا تجد أمهاتنا بُدًّا من تهديدنا بـ»البعبع» حتى نسبل الأجفان، ونغرق في نوم عميق، كبرنا وكبر العالم في أعيننا، ورأى كل منا نفسه جزءًا من مجتمعٍ وأمة، ولا نزال نتلقى التهديد نفسه بذلك البعبع حتى ننام.
الكيان الصهيوني قدّم لنا نفسه كـ»بعبع» حتى نُؤْثر العيش ساكنين (سكون الأموات) ولم يطرح نفسه بهذه الصورة من خلال القوة العسكرية وحدها، وإنما بإقناعنا بأنه النموذج الأرقى في المنطقة، وبتماسك مجتمعه، وتلك هي القناعة التي ترسّخت في الوجدان العربي حتى صار بعض المنخدعين يشيدون بدولة الاحتلال وينادون بطيِّ صفحات الماضي والتعامل مع الصهاينة على قاعدة الأمر الواقع.
«وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا» أطلقها القرآن وصارت فينا مثلًا نُردِّده عندما ينبعث من داخل الجماعة من يشهد عليها، وها هنا شهادة لكاتبة صهيونية، ربما لا تكون معروفة لكثير من المسلمين، لكن أباها غني عن التعريف، هي الكاتبة ياعيل موشي ديان، ابنة وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشي ديان، تسهب بكتابها «وجه المرآة» في الحديث عن الوجه القبيح للمجتمع الإسرائيلي، والعوامل التي تنذر بتفككه، فتقول في أحد مواضعه: «ما بين التصدع القومي والتصدع الديني والطائفي والطبقي، تتشكل عوامل انهيار دولة إسرائيل في المستقبل، أو على أقل تقدير دخولها في دوامات الصراع الداخلي». تلك هي الحقيقة، المجتمع الإسرائيلي يتصدع من الداخل.
وقبل ثلاث سنوات نقلت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية عن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية هرتسي هليفي، قلقه على التماسك الاجتماعي للإسرائيليين أكثر من قلقه إزاء العمليات الفدائية متسائلًا: «هل سيبقى المجتمع الإسرائيلي مجتمعًا واحدًا بعد عقد من الزمن؟».
جاءت أحداث العنف والشغب التي اندلعت مؤخرًا في المدن الإسرائيلية على خلفية مقتل شاب إسرائيلي من أصول إثيوبية، لتعيد تجديد حقيقة الخبث الذي ينطوي عليه المجتمع اليهودي، وتبرز عدم التجانس بين مكوناته.
اليهود الإثيوبيون الذين يُعرفون بـ«الفلاشا» قد نُقلوا إلى دولة الاحتلال من خلال موجتين للهجرة الأولى في عملية أُطلق عليها «موسى» عام 1984، والثانية أُطلق عليها عملية «سليمان» عام 1991، ويصل عددهم اليوم حوالي 144 ألف إسرائيلي من أصل إثيوبي، يواجهون تمييزا مُمنهجا لصالح اليهود من ذوي الأصول الأوروبية (إشكنازي).
عدم الانسجام في المجتمع الصهيوني يرجع لأنه في الأصل مجتمع استيطاني إحلالي، إذ نقلت الصهيونية مهاجرين من أكثر من مئة دولة في العالم إلى أرض فلسطين، فليس لهم هوية واحدة تجمعهم، وأدى اختلاف الهويات الثقافية والفكرية والجغرافية، إلى حدوث الانقسام المجتمعي.
الانقسام كان متزامنا مع البدايات، بين الحركة الصهيونية واليهود المتدينين، فاليهود المتدينون يؤمنون بأنهم صنعوا ذاتهم في الشتات بانخراطهم في المجتمعات الأخرى، وأن الخلاص يكون بتدخل إلهي محض، وليس بتدخل بشري وصراعات سياسية وعسكرية، فبنو إسرائيل في عقيدتهم جماعة لا دولة، ويرون أن ازدواجية الانتماء (لليهودية والأرض) يصادم عقيدتهم التوراتية، إلا أن الصهيونية – التي كانت تهدف إلى خلق هوية جديدة جامعة للأمة اليهودية لها خصائص اجتماعية وثقافية مختلفة عن تلك التي حملوها في الشتات – قد أثرت في كثير من المتدينين عن طريق المزاوجة بين العقيدة اليهودية والمشروع السياسي الصهيوني، بيد أن شريحة كبيرة منهم لا تزال رافضة لإقامة دولة يهودية في فلسطين معتبرين أن ذلك مخالف للعقيدة.
هناك انقسامات متعددة ومتنوعة في المجتمع الصهيوني، سواء كان في الأصول: «إشكنازي»، «سفارديم»، «فلاشا»، أو سياسيًا: «يمين، وسط، يسار»، أو دينيًا وفكريًا: «علمانيون»، «متدينون»، أو قوميًا: «يهود»، «عرب 48»، وطال الانقسام والتصدع طبقات المجتمع بين الأغنياء والفقراء، والمثقفين والأقل ثقافة…
ولا يظن القارئ أنها من باب التعددية المحمودة التي تثري الحياة السياسية والفكرية والثقافية في المجتمع، بل هي صراعات تنخر في المجتمع الصهيوني وتنذر بتفككه.

ويدعم هذه النظرة غرق المجتمع الصهيوني في الانحلال والفساد، وهو ما تناولته ياعيل موشي دايان في كتابها، حيث أشارت إلى ظاهرة أطفال المستعمرات اللقطاء بعد تخلي ذويهم عنهم، وتفشي الرذيلة والشذوذ.
في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية لعبد الوهاب المسيري، يذكر أن اليهود الذين هاجروا من الهند إلى إسرائيل والذين يطلق عليهم (يهود بني إسرائيل) تحت تأثير الوكالة اليهودية، عانوا من التفرقة العنصرية وفشلوا في العثور على وظائف، وعاد جزء منهم إلى الهند، أما الذين استوطنوا في فلسطين المحتلة، فقد أصدر حاخام السفارديم، الحاخام نسيم، قرارًا بالتحقق من أصل يهود بني إسرائيل الذين يودون التزوج من خارج جماعتهم الدينية الإثنية، حتى يتسنى للحاخامات أن يقرروا هل هم أبناء شرعيون، أم غير شرعيين؟ بسبب أنهم يشكون في صحة زواج أسلافهم.
نستطيع القول إن هناك معضلة يواجهها كل إسرائيلي في تعريف نفسه وهويته، ولا يوجد رابط يجمع مكونات المجتمع الصهيوني، سوى الشعور بالتهديد المشترك للأخطار الخارجية.
المجتمع الصهيوني ليس بالتماسك الذي يُشاع عنه، والانبهار العربي بهذا النموذج إغراق في الوهم، والذي امتد بهم إلى التمجيد في العبقرية اليهودية، استنادًا إلى عباقرة الغرب اليهود، لكن الواقع يدحض ذلك، فأينشتاين لم يتوصل إلى نظرية النسبية بعبقريته اليهودية، بل باستفادته من الجهود التراكمية للحضارة الغربية التي اندمج فيها، فلم نر مثلًا علماء طبيعة بارزين من يهود الفلاشا، ولم يكن هناك عباقرة يهود بين العرب في عصور الضعف العربي، إذن فليست هناك عبقرية يهودية مستقلة كما يروج البعض.
لم يعد الرابط الديني بين الإسرائيليين كفيلا باستقرار المجتمع الصهيوني في ظل الانقسامات التي ذكرناها آنفًا، لذلك شهدنا في الأعوام الأخيرة هجرة عكسية لليهود في فلسطين المحتلة، بعد انكشاف وهْم أرض الميعاد، فهم كما أخبر القرآن عنهم، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

تلك عاقبة الصمود

سأل أحدهُم الفارسَ العربي الشهير عنترة بن شداد عن سر شجاعته وقدرته على هزيمة الرجال، …

تعليق واحد

  1. العرب المستعربة

    ابداع كالعادة اختي إحسان..ان شاء الله يتفككون ويضرب الله بعضهم ببعضهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *