الرئيسية / مقالات / منهاجكم «عرفة» جارية الخليفة!

منهاجكم «عرفة» جارية الخليفة!

الخطب جلل، وبلغت قلوب الرجال حناجرهم، وزاغت أبصار الأطفال والصبايا، فأسوار بغداد أحاط بها التتار من كل صوب، يمطرون دار الخلافة بوابل من السهام قبل الاقتحام، ربما تصور البعض أن رأس الخلافة كان في غرفة العمليات. لكنه في ذلك الوقت، كما يقول المؤرخ ابن كثير في البداية والنهاية، يسامر جارية من حظاياه تسمى «عرفة»، ترقص بين يديه وتُسرّي عنه، لكنه أصابه الفزع، ليس لأن التتار اجتازوا أبواب المدينة، بل لأن سهماً تترياً أصاب الفتاة، وهي ترقص فأرداها، فلما أحضروا له السهم الذي أصابها، فإذا هو كتب عليه: «إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذْهبَ من ذوي العقول عقولهم».

لا تزال تلك المقولة تصدُق فينا إلى اليوم، فوا عجباً لقوم غابت عقولهم، لمعت أسماؤهم وأظلمت بصائرهم، أدركوا معنى حجم المؤامرات على الأمة، وأيقنوا معنا أن موجات الغزو الفكري والثقافي والاقتصادي والعسكري تتدفق إلى قلب أوطاننا، لكنهم آثروا خوض معارك جانبية، لا تسمن ولا تغني من جوع، وبدلاً من الدعوة لتوحيد الصفوف ومقارعة الغزاة، احترفوا مهنة التصنيف، وأصبحوا قضاة لا دُعاة، ونصّبوا أنفسهم حاكمين على غيرهم، بالتجريح والتبديع والتفسيق والرمي بالابتداع والتطرف، كل ذلك باسم الحفاظ على سلامة المنهج وسياج العقيدة ودرء الفتنة، «ألا في الفتنة سقطوا». هؤلاء الجرّاحون الشتّامون، تتبّعهم العلامة بكر أبو زيد في رسالته «تصنيف الناس بين الظن واليقين»، وكشف عوارهم، وفضح أغراضهم، فمال عليهم بسيف الحجة والبيان، فأوجز في أحوالهم وكفى ووفّى:

«ترى الجرّاح القصاب، كلما مر على ملأ من الدعاة، اختار منهم ذبيحاً، فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المُرة، تمرُق من فمه مروق السهم من الرمية، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق، فإن ذلك من شعب الايمان». بدعوى محاربة البدع والحفاظ على العقيدة، سلطوا سيوف التصنيف والتجريح على الباذلين المصلحين، وجلسوا في زواياهم يصبون الحقد في آذان الغُرِّ صَبّا، فيخرج الأتباع يتلقون الركبان: فلان خارجي، وآخر إخواني، هذا مبتدِع، وذاك فاسق، هؤلاء تكفيريون، وأولئك سروريون، وضاع الحق بين الضمائر وأسماء الإشارة. ذكروني بقول أحدهم: أحق الناس بالشفقة، رجل نصب خيمته على رصيف السالكين، يمرون خفافا للمعالي، ويُفني عمره وهو يصف أحوالهم، وينتقد مسيرهم، يا ضيعة الأعمار.

من أمثال هؤلاء كانت شكاية العلامة ابن منده: «عجبتُ من حالي، فإنّي وجدت أكثر من لقيته إن صدقتُه فيما يقوله مداراة له، سمّاني موافقاً، وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله، سمّاني مخالفاً، وإن ذكرت في واحد منهما أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك، سمّاني خارجياً، وإن قُرئ عليّ حديث في التوحيد، سمّاني مُشبّهاً، وإن كان في الرؤية، سماني سالمياً». بضاعة هؤلاء سطر في مقالة هذا، أو تعليق لذاك على فضائية ما أو تغريدة ما، فيسطو على العبارة سطو اللصوص، وينظر في أي خانة يضع الرجل، ويخلع عليه نعوت البدع والفسق والضلال، من دون أن ينظر في مواقفه الأخرى.

داعية مكلوم، أصيب في أهله، وفُجع في أحبّته، أتاه القريب والبعيد من كل حدب وصوب، لتسليته والشد على عضُده، وزاره الأمراء وصفوة العلماء وكبارهم لتعزيته، لكنّ أحد الجراحين محترفي التصنيف، خرج على تويتر فأرعد وأزبد، ولم يتمالك ذاته النرجسية، وبث للعلماء والأمراء رسالة عتاب، بعدم جواز تعزية أهل البدع. تباً لمحاكمكم الهزلية، الأمة تغرق، وأنتم لا همّ لكم سوى تصنيف الآخرين والنيل منهم، فقط لأنهم يخالفونكم الرأي، ذبحتم من وافقكم في أصول الدين وأصول الاستدلال، لأنه خالفكم في الفروع أو الاجتهادات، جعلتم من مصطلحات (البدع والنقد وتقويم الرجال) كلمات من المطّاط. أنتم لا تختلفون عن الغرب الذي مدّد في مصطلح الإرهاب، وجعل منه عباءة فضفاضة، يُلبسونها كل من لا ينتظم في التبعية لهم. هؤلاء الشتّامون يبحثون عن القذاة في أعين الآخرين، ويستغشون ثيابهم عن فضائلهم، أمثال هؤلاء عانى من مكرهم الإمام الشافعي، فتراه يقول: «لو أصبت تسعا وتسعين، وأخطأت واحدة، لأخذوا الواحدة وتركوا التسع والتسعين». أمَا وإن القرآن علمنا ذلك المنهاج في النقد والتقويم، عندما تحدث عن اليهود وهم أهل خيانة وغدر، شهد بأن منهم من ليس على هذه الشاكلة: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) [آل عمران: 75].

حاربوا الأحزاب وناجزوها من دون تفريق بين ما يمكن وما لا يمكن قبوله منها، بدلاً من الدعوة إلى ترشيد مسالكها، نادوا بهدمها والقضاء على بنيانها.

لبّسوا على الناس في أن الانتماء إلى أهل السنة يُحرم الانضواء إلى حزب أو فصيل يتعاون على البر والتقوى، وأغلقوا صفحة من السيرة النبوية قال فيها الحبيب صلى الله عليه وسلم عن حلف كان في الجاهلية: «لقد شهدتُ مع عمومتي في دار عبدالله بن جدعان حلفا، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو ادعى به في الإسلام لأجبت». كان الأولى أن يقوّموا مسالك الأحزاب، وينصحوهم بالحسنى، بضرورة نزع روح التعصب، وأن العمل الحزبي ما هو إلا وسيلة وليس غاية، وأنه لا ينبغي أن يكون معقد الولاء والبراء، وعدم الحيْدة عن تعاليم الشريعة، ونحو ذلك من ضوابط العمل الجماعي. كنت أحسب أن قول الرئيس الأميركي بوش الابن بعد أحداث الـ11 من أيلول (سبتمبر): «من ليس معنا فهو ضدنا»، كنت أحسب أنه حال استعمارية، لكننا اكتشفنا أنه في عالمنا العربي والإسلامي حال أخلاقية، فغُلاة التجريح وهُواة التصنيف لا يبنون تقويم ونقد الرجال والجماعات على أسس واضحة، بل على الأهواء والميول، وعلى تلك النظرة الضيقة «من ليس معنا فهو ضدنا». لقد كان من آثار منهجهم في التصنيف والنقد، أنْ فقد الناس ثقتهم بالرموز، وصار التشكيك والريبة عنواناً في التعامل مع أهل العلم والدعوة والإصلاح، في الوقت الذي يحرص الغرب على تلميع رموزه وإن كانت وهمية، فنابليون بونابرت الذي تلطخ تاريخه بالدماء هو البطل المجيد. ويُطل الأستاذ محمد علي كرد بمقارنة بين العالم الغربي والعالم العربي الإسلامي في ذلك الأمر، فيقول: «لا تخلو فرنسا يوما من تذكّر الموتى والإشادة بهم ورفع أقدارهم، ويريدون من ذلك ألا ينسوا رجالهم، وأن يرددوا على الدوام ذكراهم، أما المسلمون على الأكثر فانتهجوا نهجاً آخر: يصِمون رجالهم بكل نقيصة، ويخترعون لهم مساوئ ليست فيهم، فإذا ماتوا سكتوا بعض السكوت عنهم، ولا يتناولون بالنقمة واللعنة إلا عظماءهم في حياتهم». ألا أيها الشتامون الجراحون، فلتقولوا خيراً أو لتصمتوا، ليكن نقدكم بناءً لا هدّاماً، كفوا عن أساليب القص واللزق واجتزاء النصوص، ولا تُشغلوا الأمة بصراعاتكم الجانبية عن التحديات الضخمة، هلمّوا إلى فقه الائتلاف ووحدة الصفوف على أرضية منهجية سليمة، لا تغفل الزلل، وتجبر النقص، وتوازن بين الإيجابيات والسلبيات، وإلا فنقدكم لا يعدو أن يكون «عرفة» جارية الخليفة.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

الدين كفكرة مركزية في مشاريع النهضة

بعد أن فقدت الأمة الإسلامية ريادتها، ودخلت التيه وأوغلت، وتداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة …

تعليق واحد

  1. ●وقد-( يبطئُ النصرُ!؟) -حتى تبذلَ الأمةُ المؤمنة آخر ما فن
    طوقها~“””
    من قوة، وآخرُ ما
    تملكهُ من رصيدٍ,، فلا تستبقي عزيزاً ولا غاليا، إ وتبذلهُ هيناً رخيصاً في سبيل الله.!؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *