كتعاقُبِ الفصول أعيش فصلًا يسمونه الأربعين، لَطَالما فررتُ منه قبل الحلول، لكن خطَّ الزمان لا ينحني للوراء، ومع ذلك لم أرَ نفسي تلك الأنثى التي تتهددها كلمات “نزار”:
وأعرف أنك في الأربعين
ستُقطع عنك مياه المطر
وأعرف أنك في آخر الشهر
سوف تكونين حقلًا بغير ثمر
وأنك في آخر الليل
سوف تكونين ليلًا بغير قمر
وأنك سوف تجوبين كل مقاهي الرصيف
بغير جواز سفر
لم ألتفت لتلك الحالة من الضياع المُحتمل، إذ أرعيتُ سمعي لآي الكتاب {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، فألفيْتُ المقامَ مقامَ الأشُدّ، وموطن النضج والجد، بعيدًا عن اعتبارها أزمة منتصف العمر، وبعيدًا عن الخضوع لهيستيريا التغيرات السيكولوجية والدخول في فترة مراهقة أخرى.
لكنها مرحلة يرافقها الكثير من المعاني المُتدفقة والخواطر التي تتزاحم في العقل ولا تكف عن التردد بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ها قد بلغتُ الأربعين، ووضعت رحالي على أبواب مرحلة هي الأكثر غرابة وإثارة، حيث تشعر أنك في حياة برزخية بين تفاصيل الماضي بقوته وعنفوانه ووعورةِ تضاريسه بل وعبثه وصبيانيّته، وبين مستقبل يرقبك في وقار، ويطالبك بأن تكون أكثر نضجًا، ويفتح أمامك كشف حساب لما مضى، فتقف أمامه كتلميذ بليد.
بلغت الأربعين بغتة، فوجدتني كمسلمة أتساءل: ماذا قدمت لحياتي الأبدية التي أوقن بأنها المآل والمصير؟ فلم تعد نظرتي إلى الشعرات البيض المتناثرة بذات السطحية، بل أراها ناقوسًا يدق على رأسي، ورسولًا ينذر بدنو الأجل، ولم أُفلت من تقريع أحد سادة القرون المفضلة يقول: “إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يومٌ مضى بعضك”، فما الذي تبقى مني والظن بالسنين أنها لن تكون بقدر ما مضى؟ لكنّ جناح الرجاء الذي يمنحني الاتزان قد أتاني بالمخرج على لسان سيدٍ آخر: ” تُحسن فيما بقي، يُغفر لك ما مضى وما بقي”.
بلغت الأربعين والذكريات مع العائلة قد تدفقت كشلالات “نياجرا” في كياني، الحنين إلى رائحة الخبز في البكور، إلى مائدة الإفطار التي اجتمعت عليها قلوب قبل أجساد، إلى الاستدفاء تحت إبط الجد الحنون فأشتم فيها رائحة السنين، إلى التحلّق في المساء للاستماع إلى نشرة الأخبار المنزلية وفنون الدعابة.
وبعدما حملتني أحلام صباي إلى المدينة، واستبد بي الطموح في عالم الحروف، كنت حديثة عهدٍ بحياة العائلة، فلم أجد ذلك الوجْد للذكريات بسبب سطوة زخارف العالم الجديد، أمَا وقد انسلّت الأعوام، وودعتُ الشباب إلى الكهولة هدأت الثورة، وحانت مني التفاتة حزينة إلى العائلة، وعلمت كم فقدت من كنزٍ لا أعدل به سواه.
بلغت الأربعين وأنا أنظر بابتسامة باهتة إلى قلمي المتهور، كم كان متسرعًا كحال مراهقٍ يستقبل نظرة الفتاة الأولى فيتعجل قصيدة غزلٍ لا وزن فيها ولا قافية ولا دراية ببحور الشعر، وكم أوقعني في الخجل وأدخلني في دائرة الصراع بين نفسي ونفسي، لكنني اليوم أراني أستحي من جهالة تتلبّس بقلمي، وقد دُعي أحدهم إلى لهو كان يساعد عليه، فقال: “دخلت في حد الأربعين، فما بقي فيّ على الجهل مساعد”، وأنا كذلك لم يبقَ فيّ على الجهل مساعد.
أكاد أنفجر ضحكًا وأنا أتذكر فترة طفولتي الإعلامية، عندما حبست نفسي في دائرة المقارنة بين الإخوان والسلفيين والجهاديين لأرى أيُّهم على الحق لأتخندق معه، لكن سرعان ما تسلل إلى الرشد، فأدركت أن العالم أوسع من تلك الرايات الجزئية، وأنه ليس علي الاختيار بل ولا الانتماء، أيقنت أنه ليس هناك في البشر ملائكة خُلّص ولا شياطين خُلّص، وأن التقارب يكون بحسب ما لديهم من حق، والدفاع عن مظلومهم واجب، ونقدهم حال الخطأ عين الصواب، كما هو الحال مع غيرهم، وكفاني انتمائي لأمتي دون وسيط، أنا لها كما قال دريد بن الصمة:
وَهَلْ أنَا إلا مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ … غَوَيْتُ وَإنْ تَرْشُدْ غَزيَّةُ أرْشُدِ
ربما كانت عاصفة الحزم التي راهنت عليها حدثًا فارقًا في حياتي، بعدما تحولت فجأة إلى التخندق مع آل سعود بعد طول شقاق، وذلك عندما تراقصت أمامي الأحلام بعهد الملك الجديد، وغفلت عن السياق المُتشابك، ثم تحولت الأحلام إلى هباءٍ منثور، لكنني أدركت بعد أربعة عقود مضت أنه لا ينبغي لي أن أحب جملة أو أكره جملة، وألا أرمي بهلب السفينة في عمق الصحراء، لقد كانت القاعدة ماثلة دائمًا لكنني لم ألتفت إليها، قاعدة نبوية (أَحْبِبْ حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأَبْغِضْ بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما).
الحياة ما هي إلا أوراق، بعضها فرغنا من قراءته والآخر في الانتظار، ربما كان الفصل الأجمل من حكايتي لم يأت بعد، ذات يومٍ كان جواهر لال نهرو يختم كتابةَ سيرتِه الذاتية قبل 12 عامًا من استقلال الهند، فذيلها بقوله: ” إنني أشعر أن فصلًا من حياتي قد انتهى، وأن فصلًا على وشك البدء، ترى ماذا سيحوي هذا الفصل؟ لا أحد يتنبأ به، فإن أوراق الحياة القادمة مختومة”، لكن الأوراق التي أتت لاحقًا في حياته كانت تحمل له نبأ تنصيبه رئيسا للوزراء، ولا زال في أوج بروزه السياسي يشعر أن فصولًا أخرى من كتابه لم تُفتح ولم تتقلب صفحاتها بعد.
أمَا وقد بلغت الأربعين فإنّ الهمَّ يتّجِه لأن يكون القادم أفضل، وألا تكون الأنفاس المتبقية لي على ظهر الأرض استنساخًا لمشاهد الماضي، ربما سبقني إلى التزين بهذه الحقيقة الملاكم الأمريكي المسلم الراحل “محمد علي كلاي” عندما قال: “إذا كنت أقول اليوم وأنا في الأربعين ما كنت أقوله وأنا ابن العشرين، فمعنى ذلك أني ضيعت عشرين من عمري دون جدوى”.
ليس كل ما مضى من حياتي قاتمًا، فأكثر ما حمدته من مسلكي أن المواقف ليست هي المبادئ، والثبات على المبدأ لا يُحتّم الثبات على المواقف، وإلا فهو سكون الجسم الميت، وهو ما أرجو أن أظل على عهد القيام به، سأظل دائمًا أُبقي على خط الرجعة بلا استنكاف. وبعد رحلة طويلة وجدت نفسي أُمثل حالة سوء فهم، ربما أبدو للكثيرين متناقضة بسبب تغير مواقفي، أو ربما باندفاعي العاطفي في التناول أحيانًا، وربما تقولون بأنني كاتبة أحدثتْ جلبة، لكنني أعرف من نفسي الرغبة في أن أُحدث فارقًا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
نسأل ﷲ أن يبارك في عمركم يا سيدة القلم..
يكرر الاجانب كثيرا مقولة ان الاربعين هو رقم مثل غيره ولايجب التركيز عليه كثيرا عندما يقترن بعمر الانسان ولكن هناك بالفعل ضرورة لان يتامل الانسان في مغزى الخياة ومعناها في مراحل عديدة من عمره ومن الجميل ان تكشفين لنا كمفكرة وكاتبة هذا الجانب الانساني من حياتك وتشاركين القراء باحاسيسك الجميلة والمبدعة كالعادة
من اجمل ما قرأت يا سيده يا فاصله
بارك الله لكِ في لوحه المحفوظ .. و أكرم مثواكِ ..وجعلكِ من المكرمين على رؤوس الخلائق يوم لا ينفع مال ولا بنون ..
كلّ ماتكتبينه سواء في السياسة أو الإجتماعيّات أو تقويم حاكم وتصويب اعوجاج والدفاع عن الناس وسواها الخ.. تفوح منه رياحٌ عاصفة بمسكِ الطيبة والشرف والعنفوان والنفس الوادعة المستقرّة في إيمان مكين وفهم يتغازر في علوم الدنيا وسكانها يوماً بعد يوم..
وسواء وافقناكِ في الكثير أو القليل ممّا تنشرينه، وهو في حقيقة فهمي على مستوى رفيع من الصياغة والبراعة والمتابعة والبحث والإطلاع وحبّ الخير للمجتمعات المسالمة كافّة، تظلّين ياستّ إحسان نموذجاً مشرّفاً للمرأة الشريفة المجتهدة بنت الأصول عموماً وللمرأة المسلمة للتخصيص مهما كان جواز السفر الذي تحمله..
تحيّاتي وتقديري وتمنّياتي لك بتحقيق جميع مقاصدك التي تريح بالك وتعزّز وضعك الإجتماعي والمهني.
جزاك الله خير
يا غالية
تجنبي صور الارواح المحرمة مثل صور الأشخاص.
كلمات جميلة جدا، ابدع … بارك الله فيكم
مررت بهذه المرحلة، ولكن ما شعرت بها إلا في العقد الخامس،
بارك الله في عمرك وأمده في طاعته وأحسن خاتمتك برياحين الرحمات والمغفرة.
لا أدري !
أقصص الناس متشابهة ؟ أم أن قصتي مطابقة فعلا ؟
لا فُضَّ فُوكِ ولا رُفِعَ قَلَمُكِ
نصيحتي لمن سولت له نفسه انه يتراجع عن ارادته تجاه الحق حتى اذا كبر سنه وبلغ الاربعين من عمره أن يستمر بكل جهد وعزم واصرار على طريق الحق لأن هذا المنتصف من العمر هو المصدر الحقيقي والرشد القوي الذي سينشر الخير بفضل الله سبحانه من خلاله
البدن والعقل مثل السيف كلما وضعته على النار وضربته كلما ازداد قوة وحدة وصلابه …….شكرا لكي استاذتنا الفاضلة وكتب الله اجركي واجركم جميعا
بااارگ الله في عمرگ أستاذتنا،،وجعل أجمل الفصول من حياتگ،،هي تلك التي مازالت مطوية،،ورزقك فهما على فهم وعلما على علم،،وآتاك راحة وطمأنينة وونس،،وبصرك بما اشتبه والتبس ،،
فعلا الأربعين مرحلة النضج والهدوء في اتخاذ القرارات،،،،
بلغتها والحمد لله منذ أكثر من ثمانية عشر شهراً،،
العمر مجرد رقم سواء بالعشرين أو الأربعين لا ينقص من العقل الفرق تجارب الحياة على مدى السنين ومدى رؤيتك للبعيد ليس القريب هنا كلما تتعمق بتجارب الحياه تبني عليها حياتك بكل زواياها سواء من الزواج او الأهل أو الصداقات أو عملك اربعه اتجاهات واوسطها الصلاه والسلام عليكم.
بلغت الأربعين فليت شعري
أعيش بعد سن الأربعين
اطال الله في عمرك وامدك الله بالصحه والعافيه وتحقيق الاماني والنجاح الدائم، استاذه احسان حفظك الله ورعاك، اسأل الله حسن الخاتمة لنا ولكم ولجميع المسلمين يا رب العالمين.
كل عام وانتِ بخير ايتها الفاضلة…واطال الله في عمرك…