اسمها ريطة بنت سعد، كانت تغزل طول يومها غزلًا قويًا محكما ثم تنقضه أنكاثًا، أي: تفسده بعد إحكامه، فضرب القرآن بها مثلًا لمن لك من يقوم بعمل الشيء وبنائه ثم يهدمه بنفسه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}.
هل صار أمرًا حتميًا على الأمة، أن نرى كل ببنيان فيها يقوضه أبناؤه الذين بنوه بأيديهم؟ هل هو مقدورٌ علينا أننا كلما اعترتنا الفرحة لحدث ما أو واقع ما، أن تُقتل فينا هذه الفرحة بأيدينا؟ حاشا لله، فما يقدر الله سوى الخير لعباده، ولكنه بما كسبت أيدينا.
رغم الأوضاع المأساوية في قطاع غزة، ورغم ضراوة الاعتداءت الإسرائيلية والعمليات العسكرية التي تشنَّها القوات الصهيونية من حين لآخر، إلا أن غزة في حس جميع أبناء الأمة الشرفاء هي رمز المقاومة والبطولة والصمود، والمقاومة في غزة هي من تجعلنا نرفع هاماتنا عاليًا، باعتبارها القوة الوحيدة على وجه الأرض التي تواجه السرطان الإسرائيلي.
هي غزة الدموع والبسمة..
غزة هي الحزن والفرح..
غزة هي القوة من قلب الضعف..
هي بصيص الأمل في الظلام..
غزة هي الإفطار على صوت الطائرات والانفجارات..
غزة هي صواريخ القسام التي تُخرج فئران الصهاينة من من جحورهم إلى المخابئ..
غزة هي أحمد ياسين والرنتيسي ويحيى عياش..
غزة هي الأم التي تربي فلذات الأكباد لتدفع بهم كقذائف في وجه الاحتلال..
تلك هي غزة التي عرفناها، وفيها الأمل بعد الله في تحرير الأقصى الأسير، لكنَّ فرحتنا بغزة تكاد تختنق بل تموت، عندما نرى إيران تتنفذ فيها، وتزرع فيها ذراعًا لها.
فبعد امتد النفوذ الإيراني عن طريق أذرعها وميلشياتها التي أنشأتها، في لبنان والعراق واليمن والبحرين والكويت وغيرها، جاء دور نكبة جديدة في ظل صمت جديد في المحيط السني، إنها “حركة الصابرين” ذات التوجه الشيعي والموالية لإيران، ولكن هذه المرة، في عقر دار المقاومة الفلسطينية، في قطاع غزة.
هذه الحركة قد أنشئت حديثًا لكن يتم العمل لها في الخفاء منذ فترة طويلة، وأسسها منشقون عن حركة الجهاد الإسلامي، بزعامة المدعو هشام سالم.
حركة “الصابرين نصرًا لفلسطين” أو حركة “حصن” كما يطلق عليها اختصارًا، هي صورة طبق الأصل من حزب الله اللبناني الشيعي.
العلم والشعار متشابه..
البرامج واحدة …
الخطاب واحد…
الانتماء واحد (لإيران)..
وكالعادة مارست في بداية ظهورها النشاط الاجتماعي الخدمي، الذي يكون وسيلة لها لتحظى بقبول شعبي، وتتمكن من التوغل في القطاع.
حركة الصابرين باعتبارها ذراعًا إيرانيًا يتحرك في ظل ولاية الفقيه، أدانت عملية عاصفة الحزم التي قادتها إيران ودول الخليج على الانقلاب الحوثي في اليمن، في خروج واضح عن السياق العربي السني ولصالح إيران.
أنشأت الحركة عددا من الجمعيات الخيرية بأموال إيرانية، تستغلها في نشر التشيع في قطاع غزة، مستغلة الحصار والتضييق والفقر المدقع الذي يعيش الناس في يحمومه.
وقد ذكرت صحيفة العرب بتاريخ 10/6/2015م، وفقا لتقارير، أنه قد أظهرت لافتات بوضوح، ورود اسم المرشد الأعلى السابق لإيران الخميني، والمرشد الحالي خامنئي، وإشارات إلى الثورة الشيعية عام 1979. وكُتب على إحدى اللافتات، “مبروك لمحور طهران- القدس”.
إيران تستغل موقع وأهمية القضية الفلسطينية في قلوب المسلمين، فتعلن كعادتها في الكذب والتدليس العداء المزيف للعدو الإسرائيلي، رغم أن العلاقة القوية التي تربطها بإسرائيل قد طفح إلى السطح ولم يعد يخفى على أي متابع.
فتلك الحركة هي حركة مقاومة بلا مقاومة، فلم يعهد عنها مقاومة للعدو الصهيوني، وأخذت في التمدد بصورة واضحة في القطاع، وصل إلى حد إعلان مصدر مقرب من الحركة عن تخطيطها لإنشاء إذاعة محلية لنشر الفكري الثوري المقاوم (المزعوم).
حركة الصابرين تمر بمرحلة ظهور والأفكار السياسية والعسكرية، واتفق المراقبون والمتابعون على أنها أصبحت حركة مسلحة.
السؤال الذي يطرح نفسه بنفسه:
كيف ظهرت هذه الحركة؟
وكيف سمحت المقاومة الإسلامية السنية بالظهور والتمدد؟
هل تجهل فصائل المقاومة حقيقة ذلك الخطر الذي يحيق بالقطاع والمقاومة الفلسطينية؟
لست في حاجة إلى أن أذكر قارئي بعشقي للمقاومة الفلسطينية وبصفة خاصة حركة “حماس”، والتي لطالما دافعت عنها في كتاباتي ولا زلت.
لكنَّه لا بديل عن قرع أجراس الخطر، قبل أن نجد هذه الحركة طرفًا فاعلًا في الأحداث، أو تنوب هي عن المقاومة وتمثلها.
فهذا هو المخطط على وجه التحديد، فإيران والكيان الصهيوني والمتاجرون بفلسطين، يتجهون لأن تكون حركة الصابرين هي البديل المستقبلي للمقاومة الفلسطينية، وهو ما سوف يتخذ قطعا وضعية العداء الكرتوني الوهمي بين الحركة التي هي ذراع إيران وبين الكيان الإسرائيلي، وحتما سوف تدعم السلطة الفلسطينية هذه الفرصة التاريخية لبيع فلسطين مقابل الفتات.
نعم لا ننكر أن العرب تخلوا عن القضية الفلسطينية، وتركوا المقاومة وحيدة أمام آلة البطش الإسرائيلية.
نعم لا ننكر أن العرب ألجأوا المقاومة إلى التقارب مع إيران لنيل الدعم المادي في ظل الحصار والتضييق والعمالة العربية.
وندرك أن المقاومة سمحت للحركة بالظهور وأبدت تسامحًا معها، من أجل استمرار فتح القنوات مع إيران للحصول على الدعم.
ولكنها لعبة الموت يا حماس، مقامرة ومغامرة عواقبها محسومة يا فصائل المقاومة.
إن وجود مثل هذه الحركة ذات التوجه الشيعي والولاء الإيراني، في قطاع غزة، الذي تتواجد فيه جماعات سلفية سوف يشعل القطاع، وينقل اهتمام الفصائل من الصراع مع العدو الإسرائيلي إلى الالتفات للصراع الداخلي بغزة.
ومن جهة أخرى ستسعى تنظيمات تابعة للقاعدة للتدخل في القطاع لتكون بديلا عن المقاومة بعد استشعار هذا النفوذ الإيراني الشيعي في فلسطين وانتهاء دور المقاومة الفلسطينية.
ومن جهة أخرى كما بينت آنفا، فإن هذه الحركة يتم تجهيزها لتكون بديلا عن المقاومة الفلسطينية ويضيع كفاح عقود.
وقطعًا تتحمل الدول العربية والإسلامية مسئولية هذا العبث، لأنها تخلت عن المقاومة وتركتها فريسة لإيران.
ولكنَّ لا زالت الفرصة سانحة لإصلاح ما فسد وفق معطيات جديدة.
فإيران قد بدأت في التخلي عن المقاومة الفلسطينية، حيث أنها أوقفت دعمها المادي لحركة الجهاد الفلسطينية، وفشل رمضان شلح الأمين العام للحركة في تسوية النزاعات بين الحركة وطهران، على خلفية رفض الحركة تبني الموقف الإيران تجاه الأزمتين اليمنية والسورية بحسب ما أعلن المتحدث الرسمي باسم الحركة “جميل عبدالنبي”.
وفي الوقت ذاته ، أكد الدكتور عبد الله النفيسي واستنادًا إلى ما نشر في جريدة آرمان الإيرانية في الشهر الماضي، أن إيران بدأت حملتها ضد حركة حماس.
ويأتي هجوم الإعلام الإيراني على الحركة بدورها لرفضها التماهي مع الموقف الإيراني، وعدم التنديد بعاصفة الحزم، ورفض الحركة دعم نظام بشار الأسد.
وربما رأت إيران، أن دور المقاومة قد انتهى، لأنها لم تقدم لإيران شيئا، في الوقت الذي تُصعِّد فيه البديل (حركة الصابرين) والذي يختلف عن الفصائل الأخرى في كونه يتحرك في ظل ولاية الفقيه، وينتمي لمرجعيات إيران بناء وازع ديني طائفي.
إن الحفاظ على روح المقاومة ومسارها وصفائها، مسئولية مشتركة بين فصائل المقاومة الفلسطينية وبين الدول الإسلامية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، والتي نأمل في ظل التطورات الحادثة في السياسية الخارجية السعودية، أن تقوم الحكومة برعاية هذه الفصائل، وعدم تركها فريسة لإيران أو غيرها.