غلام الأخدود في أرض الكنانة
(أَفْضَلُ الْجِهَادِ مَنْ قَالَ كَلِمَةَ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)، ربما تنصرف الأذهان لدى مطالعة هذا الحديث النبوي إلى العهود القديمة، التي كان يُصدع فيها بالحق في وجه الظالمين، فقد شغر العصر من أولئك الصادعين إلا من رحم ربي ومنّ عليه، كان منهم ذلك الشاب المصري “أحمد محيي”، والذي خرج من بيته مُودعًا، يعلم مسبقًا أنه مأخوذٌ لن يعود إلى الديار مجددًا، فقد كانت الوجهة هي ميدان التحرير رمزية الثورة المصرية الحديثة، والهدف هو أن يقول للظلم والاستبداد (لا)، وقد وفّى الفتى وأعذر، ووقف وحده في ميدان التحرير يرفع لافتة دُوّنت عليها أمنية الشعب المصري التي استقر عليها الفرقاء من الشرفاء: “ارحل يا سيسي”.
أمثال هذا الشاب هم أصحاب الخطوة الأولى الجريئة في التغيير، فالثورة عندما تعتمل في النفوس فالجميع يحسنها، لكن المترجمين وحدهم هم القادرون على تقديم النموذج الحي للروح الثورية.
أحمد محيي ليس مختلًا أو به قصور من الناحية العقلية، وهو كبقية الشباب المصري والعربي له أحلامه وله طموحاته، وله ما يخشى عليه، وله على هذه الأرض ما يستحق أن يعيش من أجله، لكنها النفوس الباذلة صاحبة المبادرة، هو يعلم أن عبارة “ارحل يا سيسي” وحدها ليست كفيلة بإحداث أية تغييرات، لكنها الرغبة الجامحة في أن يكون تلك الشرارة التي تضرم النار في الهشيم، هو المعنى الذي أراده الشاعر:
أنت نشءٌ وكلامي شُعَلٌ…..علّ شدوي مضرمٌ فيك حريقا
إنها ذات المنهجية التي سار بها غلام الأخدود في الزمن الغابر، يعجز الطاغية عن اجتثاث نبتة الإيمان بين شعبه، فيعمد إلى تصفية صاحبها القائم عليها “غلام الأخدود”، يحاول قتله بعدة وسائل، فيستعين الفتى عليه بمن يقول للشيء كن فيكون، بل ويفرض قواعد اللعبة مع الملك: (إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِكَ ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي).
وقد كان، جمَع الطاغيةُ الناسَ في صعيد واحد، واستلّ سهما من كنانته، وقال “بسم الله رب الغلام”، فرماه فسقط الغلام شهيدًا، فآمن الناس برب الغلام، لقد أنجز هدفه، أشعل شرارة الإيمان، وكان دمه هو الثمن.
أمثال هؤلاء الذي يُرخصون أنفسهم في سبيل دينهم وأوطانهم وحرياتهم، يبذلون كلمة الحق أو يقفون موقف الحق وهم ينشدون أن تُجنى الثمار من بعدهم، هؤلاء يتغمدهم قول أديب الظلال: “إن كلماتنا ستبقى ميتةً لا حراك فيها هامدةً أعراساً من الشموع، فإذا متنا من أجلها انتفضت وعاشت بين الأحياء، كل كلمة قد عاشت كانت قد اقتاتت قلب إنسان حي فعاشت بين الأحياء، والأحياء لا يتبنون الأموات”.
قامت ثورات الربيع، وأعقبتها الثورات المضادة، ولا تزال الشعوب تذكر بوعزيزي الذي كان شرارة الثورة التونسية.
لحق الدمار بسوريا وأصبحت مسرحًا لحرب كونية، ولا يزال الناس يذكرون الطفل معاوية الصياصنة ابن الـ 14 ربيعًا، عقب اندلاع الثورات في تونس ومصر كتب على أحد الجدران “أجاك الدور يا دكتور” يعني بشار الأسد، واعتقل الغلام واقتيد من بيته بالأغلال، وظل رهن الاعتقال مع رفاقه 45 يومًا، تعرضوا خلالها لشتى أنواع التعذيب، وكان الشرارة الأولى التي انطلقت في جنوب درعا للثورة على الطاغية.
أمثال هؤلاء سوف يذكرهم التاريخ، وتصبح صورهم وسيرهم أيقونات للثورات المقبلة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.